مدرسة مازونة الفقهية بغليزان

منارة خفت ضوؤها ولم تنطفئ

منارة خفت ضوؤها ولم تنطفئ
  • 171
ن. واضح ن. واضح

في قلب مدينة مازونة العتيقة حيث تنبعث من الأزقة روائح الزمن الأندلسي وتتعانق المآذن مع حجارة التاريخ، تنتصب مدرسة مازونة الفقهية. صرحٌ علميٌّ خالدٌ حمل مشعل المذهب المالكي قرونًا طويلة. وظلّ شاهدا على عبقرية المكان، وأصالة الإنسان الجزائري. لم تكن المدرسة مجرّد جدران أو قاعات للتدريس، بل كانت قلعة فكرية، ومؤسّسة علمية متكاملة، يُؤخذ فيها العلم من أفواه العلماء، وتُناقَش النوازل الفقهية، وتُصاغ الفتاوى التي تنير حياة الناس في الحقول، والأسواق، والقصور على حدّ سواء.

وتأسّست المدرسة في القرن السابع عشر على يد العالم الجليل الشيخ سيدي أمحمد بن الشارف، الذي أراد أن يجعل من مازونة مركز إشعاع علمي وروحي، ينافس كبرى الحواضر الإسلامية في المغرب والأندلس. ومنذ نشأتها كان المسجد العتيق لمازونة قلبها النابض. تُقام فيه الدروس صباحا ومساءً. ويُدرَّس فيه الفقه المالكي وأصوله، والحديث الشريف، وعلوم اللغة العربية، والمنطق، والبلاغة. واشتهرت مدرسة مازونة بمنهج تربوي فريد يقوم على الحفظ، والمناقشة، والمناظرة؛ فلا يُجاز الطالب حتى يُظهر براعة في استنباط الأحكام، وقياس النوازل على الأصول الشرعية.

وقد خرّجت المدرسة كوكبة من العلماء الذين حملوا لواء المذهب المالكي في ربوع الجزائر والمغرب العربي، من أبرزهم الشيخ أبوطالب المازوني أحد كبار أعلام الفقه المالكي في المغرب الأوسط، والشيخ أحمد بن زكري، والعلّامة صاحب الفتاوى والنوازل، والشيخ محمد بن عبد الكريم الفكون، والعالِم الموسوعي الذي ربط مازونة بعلماء تلمسان وفاس، والشيخ سيدي الحاج بن عودة المازوني الذي واصل نشر علومها في القرن التاسع عشر. وبفضل هؤلاء الأعلام تحوّلت مدرسة مازونة إلى مرجع علمي وفقهي يقصده الطلبة من تلمسان، ومستغانم، وفاس، وتونس، وطرابلس، حتى أطلق عليها المؤرخون لقب "الأزهر الصغير "؛ لما بلغته من إشعاع، وتأثير.

 نورٌ لا ينطفئ

ومع تعاقب القرون وتبدّل العصور ظلّ وهج مازونة الفقهية حاضرا في الذاكرة، تحفظه المخطوطات النفيسة التي خلدت دروس علمائها ومراسلاتهم، وفي صدور أحفادهم الذين لايزالون يحملون مشعل الفقه والعلم. ورغم أن ضوء المدرسة خفت بفعل عوامل الزمن والإهمال، إلا أنه لم ينطفئ؛ فكل زائرٍ لأزقتها القديمة يسمع صدى العلماء في جدرانها، ويشعر بعبق الحكمة التي ما زالت تسكن حجارتها العتيقة. اليوم، تبقى مدرسة مازونة الفقهية أكثر من معلم أثري؛ إنها رمزٌ لذاكرة علمية جزائرية أصيلة. ودليلٌ على أن الجزائر كانت وستظل، منبعا للفقه، ومنارةً للعلم، ومأوىً للعقل والروح. فمدرسة مازونة الفقهية تاريخ من نورٍ، ورسالة لا تنطفئ.