أثّرت على الهوية الثقافية
التحوّلات العمرانية غيّرت وجه عنابة القديم
- 197
سميرة عوام
عرفت مدينة عنابة في السنوات الأخيرة، توسّعا عمرانيا متسارعا غيّر وجهها القديم، وأعاد تشكيل ملامحها التقليدية التي طالما ميّزتها عن باقي مدن الوطن. فقد انتشرت الأحياء الجديدة، وارتفعت البنايات العصرية شاهقة في السماء، بينما بدأت المعالم القديمة تختفي تدريجيا إما تحت وطأة الإهمال، أو بفعل الجرافات التي تمحو التاريخ؛ من أجل الإسمنت، والخرسانة.
عنابة مدينة التاريخ والعراقة، كانت في الماضي منارة ثقافية وسياحية، تجمع بين البحر والجبل، وبين الطابع الروماني والأندلسي والعثماني. معالمها ككنيسة القديس أوغسطين، والمدينة القديمة "بلاص دارم"، وأسواقها الشعبية، كانت تشهد على حضارة عريقة، وهوية راسخة. غير أنّ هذه الهوية باتت اليوم مهدّدة بفعل تحوّلات عمرانية لا تراعي الخصوصية الثقافية والمعمارية للمدينة.
وفي قلب هذه الهوية المهدّدة تبرز المدينة القديمة "بلاص دارم" كأحد أبرز الرموز المعمارية والتاريخية التي تعكس روح عنابة الحقيقية. شوارعها الضيّقة، نوافذها الخشبية، ومحلاتها الصغيرة التي تعود لعقود، تمثل صورة حية من الماضي، ومرآة لذاكرة المدينة. لكنّها اليوم تعاني الإهمال والتهميش؛ فالكثير من مبانيها مهدّد بالانهيار. وأزقتها التي كانت تضج بالحياة، أصبحت مهجورة أو محتلة بشكل فوضوي، في غياب واضح لبرامج الترميم والصيانة.
وإلى جانبها يأتي حي "لاكولون" الذي يحمل بصمة معمارية فريدة تعود لفترة الاستعمار الفرنسي، لكنه اندمج مع الروح العنابية، وأصبح جزءا من الذاكرة الشعبية. هذا الحي، بدوره، لم يسلم من التدهور رغم ما يحمله من قيمة جمالية وإنسانية. فرغم أنه يمثل طابعا عمرانيا خاصا، يشهد هو الآخر، زحف البنايات الحديثة على حساب التوازن البصري والتاريخي.
لقد تغيّرت الأولويات في السياسات العمرانية، وأصبح التركيز على الكمّ أكثر من النوع. وأُنشئت أحياء ضخمة كالكاليتوسة، وسيدي عاشور، وذراع الريش، لكن دون هوية معمارية مميزة. فالمباني المتشابهة ذات الطابع الإسمنتي البارد، لا تنسجم مع روح المدينة، ولا تحترم تاريخها. وفي المقابل تُركت المعالم التاريخية عرضة للاندثار دون ترميم أو حماية، وكأن لا قيمة لذاكرة المدينة في ظل "التنمية".
لكن حتى لا نكون قاسين في الحكم ينبغي الاعتراف بأن المدينة بحاجة إلى توسع، وبأن توفير السكن والمرافق أمر حيوي. ولهذا يمكن التوفيق بين الأمرين: نبني جامعات، ومستشفيات، وأحياءً سكنية جديدة، لكن مع احترام النمط المعماري المحلي، ومحاولة دمج الطابع التقليدي في التصاميم الحديثة؛ فليس من الضروري أن يكون التطور على حساب الجمال، والهوية.
هذا التوسع العمراني غير المتوازن أحدث شرخا في النسيج المجتمعي، ففقد الناس ارتباطهم بالمكان، وتراجعت قيم الانتماء والاعتزاز بالهوية المحلية. وتحوّلت عنابة من مدينة نابضة بالحياة والتقاليد، إلى مدينة حديثة ظاهرا، لكنها خالية من الروح والرمز في العمق. ومن هنا تبرز الحاجة الماسّة إلى مراجعة السياسات العمرانية وفق رؤية شاملة، تُوازن بين ضرورة التوسع والتجديد، وبين واجب الحفاظ على التراث والهوية. فالمجتمعات لا تنهض بالإسمنت فقط، بل بثقافتها، وذاكرتها، وجمالياتها المعمارية التي تعبّر عن ذاتها.
إن إنقاذ عنابة من فقدان طابعها التقليدي لا يحتاج، فقط، إلى قوانين، بل إلى وعي جماعي، وإرادة حقيقية تحترم المدينة ككائن حي، له روح وتاريخ، وليس مساحة للبناء والبيع فحسب، فالحفاظ على الهوية الثقافية ليس ترفا، بل ضرورة لبناء مدينة متوازنة، وأصيلة، ومتصالحة مع ماضيها ومستقبلها.