ميزانُ الحقِّ لا يُرجَّحُ
- 80
بقلم محمد فاضل محمد اسماعيل
من يبالغ في قوّته على غير حقٍّ في أيّ حربٍ تحريريّة، إنّما يزرع في الأرض وهمًا يجني مرارته في نهاية المطاف، فالقوّة التي لا تستند إلى الحقّ قوّةٌ عمياء تشبه بناءً على رملٍ، يتداعى عند أوّل موجةٍ من وعي الشعوب، أمّا المقاومة الصادقة فتتجذّر في الوعي قبل أن تُرفع في الميدان، وتنبثق من الأعماق.
إنّ خصم الحرّيّة يستصغر المقاومة في بداياتها لأنّه لا يرى فيها سوى أدواتٍ بسيطةٍ وعتادٍ متواضع، إذ إنّ نظرته سطحية، ويعجز عن إدراك ما تختزنه من قوّة التصميم والبراعة في ابتكار وتطوير أساليب المواجهة. فالإيمان بالحقّ يُحوِّل العزيمة إلى سلاحٍ لا يُقهر، ويجعل من كلّ خطوةٍ صغيرةٍ طريقًا إلى الفجر. لذلك لا تُقاس الحركات التحرّرية بما تملكه من إمكانيّاتٍ ماديّة، بل بما تحمله من وعيٍ وإصرارٍ وصبرٍ على بناء المستقبل. فالمعارك التي تُخاض دفاعًا عن المبدأ لا تخسر مهما طال أمدها، لأنّ ميزانَ الحقّ لا يُرجَّح، وإن تمايلت ظاهريًّا كفّتا الباطل ساعةً من زمنٍ.
وما يُفرض ظلمًا على غيرك سيعود يومًا إليك، فالتاريخ لا ينسى من اعتدى على ميزان العدالة. كم من طغاةٍ ظنّوا أنّ الأرض وُلدت على مقاسهم، وأنّ الأوطان تُورَّث كما تُورَّث الغنائم، فإذا بالدهر يطويهم كما تُطوى أوراق الخريف. إنّ الظلم حين يستفحل يُنذر بانهيار صاحبه، لأنّ العدل هو القانون الأبديّ الذي تستقيم به السنن وتتعافى به الأمم. وما يفعله المستكبر حين يطغى ليس سوى كتابةٍ بمداد الهزيمة على جدار الزمن. فالتاريخ لا يخلّد الغزاة، بل يرفع راية من قاوموا بالوعي والصبر والإصرار.
والحرّيّة لا تُمنح لمن ينتظرها، بل تُنتزع ممّن صادرها، كما يُنتزع النور من قلب الظلمة. لذلك تظلّ القضايا العادلة تسير بثقةٍ في طريقها الطويل، لأنّها تعرف أنّ الزمن حليفها، وأنّ ما يُبنى على الباطل لا يصمد مهما طال صمته أو تجمّل بشعارات الخداع. ومع استمرار الظلم واستفحال المماطلة، يبدأ الحقّ في أن يُعيد ترتيب الأمور لصالحه.
إنّ العدوّ الذي يتقن المماطلة ويبحث عن "حلولٍ ناقصة" لا يدرك أنّه يزرع بذور فنائه بيده. فالمساومة على الحقّ لا تلد سوى خديعةٍ جديدة، والمراوغة لا تُطيل عمر الظلم، بل تفضحه على مهل. حين يتوهّم الغازي أنّه يتحكّم بالوقت، يكون الوقت نفسه قد بدأ يحاكمه، لأنّ الزمن لا يصطفّ إلّا إلى جانب الحقيقة. وكلّما ظنّ أنّه يمسك بخيوط اللعبة، كان يسقط في شَركها خطوةً بعد أخرى.
إنّ الشعوب التي تعلّمت الصبر والمواجهة تعرف أنّ الحقوق لا تُنال بالعجلة، وأنّ الطريق إلى النصر ليس طريقًا مستقيمًا، بل منعطفاتٌ من التضحيات والوعي والتكامل بين الأجيال.لذلك تبقى المعركة بين الظلم والحرّيّة معركة وعيٍ قبل أن تكون معركة سلاحٍ، بين من يحاول امتلاك الأرض بالقوّة على غير حقّ، وصاحبِ الحقّ الطبيعيّ الذي يرعاها بالانتماء ويصونها بدمه. وفي نهاية المطاف، لا يربح أحدٌ رهانًا ضدّ التاريخ، لأنّ ميزانَ الحقّ لا يُرجَّح، ولا يُمال، ولا يعرف سوى كفّةٍ واحدةٍ هي كفّة العدل، مهما طال ليل الباطل وتزيّن بوهم النصر.