هاجس الدفتيريا يعود من جديد
خبراء الصحة يشدّدون على أهمية تعزيز التطعيم واحترام الرزنامة

- 199

في خضم تراجع تدريجي في مستويات التحصين، برز ما يشبه موجة هلع في الجزائر مع عودة ظهور مرض الدّفتيريا، الذي ظنّ الكثير أنّه بات من الماضي، لكن منذ أواخر عام 2024 بدأت السلطات الصحية تسجّل حالات غير خطيرة لكنّها مقلقة، تمّ خلالها الإعلان الرسمي عن تسجيل إصابات ووفيات في ولايات من جنوب وشرق البلاد. وهذا التسجيل ينذر بإعادة تنشيط عدوى كادت أن تختفي بفضل رزنامة التلقيح التي تعتمدها الحكومة منذ سنوات طويلة، إلاّ أنّ "عدم احترامها" من طرف الآباء، وعدم تلقيح أطفالهم وفق برنامج التطعيم، إلى جانب ضعف التغطية التحصينية، أو تأخّر الجرعات المعزّزة، إلى جانب تغيّرات في أنماط التنقّل والهجرة، أدّت إلى دخول عدوى من الخارج، وفق خبراء الصحة.
تُعدّ الدفتيريا عدوى بكتيرية ينجم عنها إنتاج سمّ من قبل جرثومة "الوثدية الخناقية" أو "جرثومة الدفتيريا"، التي تُحدث تلفا في نسيج الحلق، أو الأنف، أو أحيانا الجلد، مسبّبة أعراضا حادة قد تؤدي إلى انسداد مجرى الهواء، أو فشل قلبي، أو تضرّر أعصاب. وتنتقل العدوى بشكل رئيسي عبر رذاذ الجهاز التنفسي عند السعال أو العطس، أو عبر ملامسة أدوات أو أشياء ملوّثة، أو حتى عبر الجلد في شكل الدفتيريا الجلدية.
وعند الإصابة يبدأ الفرد بشكوى من التهاب في الحلق، وحمى، وصعوبة في البلع، وتورّم في الغدد العنقية؛ ما قد يتطوّر إلى ظهور غشاء رمادي سميك في الحلق أو على اللوزتين، يشكّل علامة مميّزة للداء، قد يسبّب التأخّر في علاجه. وانتشار البكتيريا إلى الدم، وظهور مضاعفات خطيرة، مثل التهاب عضلة القلب، أو شلل الأعصاب، وحتى الفشل التنفسي.
وعن هذا الموضوع قال طبيب الأطفال موسى غريب في حديثه إلـى " المساء" ، إنّ "الدفتيريا" لم تكن كلمة مألوفة لدى كثير من الجزائريين، إلى أن بدأت الأخبار تتوالى في الأيام الماضية، عن إصابات مؤكّدة في بعض المناطق، لتعود هذه العدوى القديمة إلى الواجهة، وتطلق موجة قلق واسعة بين الأسر، خصوصا مع الحديث عن عدم التلقيح، ونقص المناعة، ووجود حالات وافدة من الخارج. وأكّد أنّ الأشخاص الأكثر عرضة هم الأشخاص غير المحصَّنين، أو من لم يكملوا سلسلة التطعيم أو لم يحصلوا على جرعات معزّزة. فهؤلاء عرضة بدرجة كبيرة، مضيفا أنّ في الجزائر تحديدا، يُعدّ الأطفال أقل من 5 سنوات من الفئات الأكثر خطورة، علاوة على المناطق ذات التغطية التحصينية المنخفضة أو المعرّضة للتكدّس السكاني أو التحرّك؛ لأنّ هناك نسبة انتقال العدوى أكبر.
التطعيم ضدّ الدفتيريا، يقول الطبيب، يُعطى، عادة، ضمن لقاح مشترك ضدّ الدفتيريا، والكزاز، والسعال الديكي ابتداء من عمر حوالي 6 أسابيع، ثم جرعتان أو ثلاث ضمن البرنامج الأساسي، يليه معزّزات في سنوات لاحقة؛ لضمان المناعة طويلة الأمد. لكن تأسّف الطبيب قائلا: "أظهرت بيانات أنّ معدل التلقيح ضدّ هذه الأمراض في عمر 12- 23 شهرا، بلغ نحو 77٪ فقط في 2022؛ أي دون المستوى المطلوب لتحقيق مناعة جماعية. وشدّد أنّ ما نراه اليوم ليس مجرّد ظهور حاد لهذا المرض، بل تنبيه بأنّ الحصانة الجماعية التي بنيناها تعاني اليوم، تصدّعا تدريجيا. والسؤال ليس فقط في الطفولة، بل في فئة المراهقين والبالغين الذين ربما لم يجدّدوا التطعيم منذ سنوات". ويضيف: " عندما تتأخّر الجرعة المعزّزة أو تهمل، فإنّ الحماية تنخفض، وبالتالي تتحوّل البيئة إلى ساحة خصبة لعودة الدفتيريا، هذا إلى جانب دخول أجانب عبر الحدود، والتي أكّدت الوصاية حسب تقاريرها، أنّها حالات مرتبطة بعدوى من أشخاص، أدخلوا العدوى عند تنقّلهم إلى الجزائر ".
ومن باب الوقاية قال طبيب الأطفال: "أمّا في ما يخصّ الوقاية، فالأمر يبدأ بالتغطية التحصينية الكاملة في الطفولة، مع التأكّد من جرعات المعزّز عند الحاجة. كذلك من المهم تعزيز التوعية بأنّ التطعيم آمن وفعّال، فلقاح الدفتيريا يعدّ أحد أكثر اللقاحات أمانا. كذلك ينبغي في الأوساط المعرّضة، يشدّد، وسط المهاجرين، أو الأشخاص ذوي المناعة المنخفضة، أو الذين يعيشون في مناطق الاكتظاظ السكاني، أن تدرس الحالات، وتتابع الجرعات المعزّز بضمان فعالية التطعيم" .
وفي الأخير، دعا غريب إلى تحديث المعزّزات لدى البالغين، مشدّدا أنّ التركيز غالبا ما يكون على الأطفال، لكن المناعة عند البالغين قد تتراجع بعد سنوات طويلة من التطعيم، وبالتالي قد تكون عوامل تؤجّج احتمال تفشي الدفتيريا من جديد. كما إنّ هناك حاجة إلى مراقبة سلالات البكتيريا، ونوعيّتها؛ إذ أظهرت دراسات في أوروبا أنّ بعض السلالات ظهرت مع قدر متزايد من السمية وسرعة الانتقال، داعيا إلى تفعيل نظام التبليغ، والمختبرات، وسرعة الاستجابة؛ لأنّ الوقت من لحظة ظهور الأعراض حتى إعطاء المضاد، يمكن أن يكون حاسما في تجنّب الوفاة، وأنّ موجة الهلع التي ترافق عودة الدفتيريا في الجزائر، ليست مفاجئة، بل هي تحذير من أنّنا لا يجوز أن نأخذ الحصانة على أنّها أمر مفروغ منه.