في السهرة الرابعة من مهرجان المالوف بقسنطينة
جسر موسيقي بين التراث الأندلسي والروح الروسية

- 122

منحت السهرة الرابعة من الدورة الثالثة عشرة للمهرجان الدولي لموسيقى المالوف، التي احتضنها المسرح الجهوي "محمد الطاهر فرقاني"، أوّل أمس، جمهور قسنطينة عرضاً موسيقياً غنياً ومتنوّعاً. بين التبادلات الثقافية، وعودة أسماء بارزة، وبروز مواهب شابة واعدة، أكدت هذه السهرة مكانة المهرجان ودوره في صون التراث الأندلسي والتعريف به.
استُهلت الأمسية مع فرقة طرب روسيا، وهي مجموعة متعددة الثقافات تمزج بين التأثيرات الشرقية والأندلسية والروسية في مقترح فني مبتكر. على الخشبة، شدت السورية بشرى محفوظ، المقيمة في روسيا، بمجموعة من الموشّحات الأندلسية الكلاسيكية على غرار "حسن الحبيب"، "قدّك الميّاس"، "رحلو عني الأحباب"، "يا شادي الألحان"، "جادك الغيث" و«أيها الساقي إليك المشتكى". صوتها الدافئ والمليء بالعاطفة شدّ الجمهور ومنح التراث بعداً خاصاً.
إلى جانبها، عزّز الجزائري حسان بلقاسم، المقيم بموسكو، العرض بعزفه الرصين على آلة القانون، فبنى جسراً بين الأجواء المغاربية واللمسات السلافية. أما الموسيقيان الروسيان أوليغ بويكو على العود الباروكي وفيليكس أنتيبوف على الكمان، فقد أضافا نكهة باروكية امتزجت بتناغم مع المقامات الشرقية والأندلسية، مانحة العرض أصالة وعمقاً.
في هذا السياق، قال حسان بلقاسم "الاندماج بين الموسيقى الباروكية والمالوف يخلق انسجاماً طبيعياً". بينما أوضح أوليغ بويكو "هناك اهتمام متزايد في روسيا بالموسيقى العربية والشرقية. عزفُنا هنا في قسنطينة فرصة لتقديم تراث نحبّه بصدق إلى جمهور شغوف". هذه الروح التفاعلية جعلت الأمسية تحمل رسالة حوار بين التقاليد والابتكار.
بعد هذه الرحلة متعدّدة الثقافات، عادت إلى الخشبة الفنانة دنيا الجزائرية، بعد غياب دام خمسة عشر عاماً. أدّت مقاطع من نوبة ثرية بمقاديمها ودرارجها وزجلها، بمرافقة الأوركسترا بقيادة يوسف بوناس. كلّ نغمة كانت بمثابة تحية لجذورها، والجمهور العارف تجاوب بحرارة مع كلّ تفصيل. وعندما كرمها الشيخ محمد حمه، عبرت عن امتنانها قائلة "إنّها مسؤولية كبيرة أن أحمل هذا التميّز، فقد وُلدت والمالوف في دمي". وأكّدت أنّ المدارس الأندلسية تكمل بعضها "سواء كان المالوف التونسي أو الليبي أو الجزائري، فلا وجود لفواصل، بل لتكامل. بفضل المثابرة والتضامن سيستمر هذا التراث في التطوّر والإشعاع".
تلتها على الركح جمعية "وصل الأندلس"، المتوجّة في المهرجان الوطني الحادي عشر للموسيقى الأندلسية بسوق أهراس. بتشكيلة من عشرين عنصراً بين جوق وكورال، قدّمت الجمعية نوبة "السيكا" بحرفية وحسّ مرهف. استُهلت بالمصدر "لو كان سلطان المحبة"، تلاه الدرج "هلال بان"، ثم كرسي البطايحي "أنت سيدي أنت بدري". بلغت السهرة ذروتها انصراف "يا هاجري أش زلتي"، واختتمت بالخلاصات "أنت المحكم في الجمال"، "دير العقال" و«الزهر في الروض"، وكلها تكشف عن ثراء الألحان وعمق الشعر.
في شهادتها، صرحت عازفة القانون عليزة عريج حليمي قائلة "بالنسبة للمرأة، خوض تجربة المالوف يتطلّب مثابرة وثقة بالنفس وعملا دؤوبا. لكنّني أؤمن بأنّ النساء يمتلكن كلّ المؤهّلات ليأخذن مكانتهن ويساهمن في إشعاع هذا الفن".
بعدها صعد الشاب سيف الدين تورش، فحمل الجمهور إلى فضاء روحي عاطفي من خلال نوبة "المزْموم". افتتح وصلة الغناء بـ«هل سقطني الرّاح" و«أيها الساقي"، ثم واصل بـ«ما لهم العشّاق"، ليختتم بخلاص "حرمت بك نعاسي". من مدرسة العيساوية، جمع تورش بين النفَس الصوفي والعاطفة الغنائية، فكان أداؤه تجربة تمزج الصفاء بالحماس. وقال في نهاية عرضه "الكمان يحتل مكانة خاصة في حياتي. لم أختره أنا، بل هو الذي اختارني. أما الصعوبات فلا أعتبرها عوائق، كل شيء قائم على العمل والمثابرة".
واختتم الفنان رياض خلفة الأمسية بتكريم أساتذته في المالوف، عبر أداء نوبة المزْموم متضمنة انصرافات وبطايحيات، قبل أن يختم بوصلة "المحجوز"، وهو طابع خاص بمدينة قسنطينة. وأوضح "المالوف ليس مجرّد موسيقى، بل ذاكرة منسوجة بالاحترام والشغف والامتنان". عزفه أثار تصفيقات مطوّلة، مذكراً الجمهور بعمق هذا التراث وثرائه اللامحدود.