افتتاح الدورة الـ13 لمهرجان المالوف الدولي في قسنطينة

"حضرة وديوان"... تكريم وتجديد

"حضرة وديوان"... تكريم وتجديد
  • 129
مبعوثة "المساء" إلى قسنطينة: دليلة مالك مبعوثة "المساء" إلى قسنطينة: دليلة مالك

انطلقت الدورة الثالثة عشرة من المهرجان الثقافي الدولي لموسيقى المالوف، على ركح المسرح الجهوي "محمد الطاهر فرقاني" بقسنطينة، في أجواء حملت الكثير من الرمزية، إذ شكّل هذا الافتتاح عودة واثقة إلى الفضاء الذي يحمل اسم عميد المدرسة القسنطينية.

تميّز الافتتاح بمراسم السجاد الأحمر التي أقيمت لأول مرة في تاريخ المهرجان، حيث التقت أيقونات المالوف من الجزائر وتونس والعالم، في لحظة جمعت بين الطابع الفني والبعد الرسمي، إلى جانب والي قسنطينة عبد الخالق صيودة، الذي ذكّر بالإصلاحات الرامية إلى صون مكانة الفنان، في انسجام مع جهود الدولة لحماية الموروث الثقافي، من القفطان والقندورة إلى الملحفة المصنّفة عالمياً.

من جانبه، أكد محافظ المهرجان إلياس بن بكير أنّ هذه الدورة مميزة بكل المقاييس، لكسرها حدود المكان نحو مدن أخرى في الشرق الجزائري والعاصمة، معلناً عن صدور كتاب موسوعي بعنوان "سفينة المالوف"، ثمرة عام كامل من البحث والتوثيق. فيما اعتبر مدير الثقافة فريد زعيتر أنّ المهرجان "أكبر من ألحان تعزف، إنه تاريخ نحفظه عبر الأجيال"، مشيداً بانفتاحه على فرق عربية وأجنبية، مع تونس كضيف شرف.

بودباغ يحمل روح الحضرة والمالوف

افتُتحت الدورة الثالثة عشرة من المهرجان، بوصلة روحانية قادها الفنان محمد رضا بودباغ وفرقته "حضرة وديوان"، حملت الجمهور إلى أجواء الطقوس الاحتفالية الخاصة بالحضرة والديوان عبر موكب فني زاده البخور والأعلام، حيث تمازجت الأذكار والموشّحات والمدائح النبوية مع أنغام المالوف في توليفة معاصرة أبرزت قدرة هذا الفن على الجمع بين الأصالة والتجديد.

السهرة تميّزت بحضور فني متكامل عزّزه الثنائي مالك شلوق وعادل مغواش، اللذان أضافا بعدا جديدا عزّز الانسجام مع إيقاعات الجوق الموسيقي. الجمهور الغفير تفاعل بالتصفيق والإنصات، خاصة عند ترديد اللازمة و"للحضرة سرّ عجيب"، التي تحوّلت إلى شعار للأمسية، مؤكّدة أنّ ما قدّمه بودباغ لم يكن مجرّد حفل غنائي، بل تجربة روحية أعادت إحياء الذاكرة الجماعية وربطت المالوف بجذوره الصوفية العميقة.

على شرف الطاهرين غرسة وفرقاني

لحظة مؤثرة ميّزت سهرة الافتتاح، خصّصت لتكريم اسمين بارزين في هذا الفن، التونسي الطاهر غرسة والعميد محمد الطاهر فرقاني. وتسلّم زياد غرسة درع الوفاء لوالده، مستعيدا علاقته الوطيدة بفرقاني الذي وصفه بـالأب الروحي، فيما استلم عدلان فرقاني درع العائلة، مؤكداً أن هذا التكريم دليل على استمرارية فن المالوف العريق، وبقاء الجسور بين الأجيال متينة بفضل جهود أهل المالوف.

وبين التكريم والعروض الموسيقية والوثائقي الذي أنتجته المحافظة، بدا المالوف في قسنطينة وكأنّه يستعيد بيته الأول، ليبعث من جديد رسالة وفاء للمكان والذاكرة، ويؤكّد أنّ أندلس الروح التي عبرت المتوسط لا تزال قادرة على مخاطبة العالم بلغة الفن الأصيل.

زياد غرسة.. سفير المالوف التونسي

ختم الفنان التونسي زياد غرسة السهرة الأولى من فعاليات الدورة الـ13 للمهرجان الدولي لموسيقى المالوف، في عرض جمع بين الأصالة والتجديد، وأبرز ثراء المدرسة التونسية في هذا الفن العريق. الجمهور القسنطيني، الذي ملأ مقاعد المسرح الجهوي "محمد الطاهر فرقاني"، تفاعل بحرارة مع أداء غرسة الذي جسّد عمق الروابط الثقافية والفنية بين الجزائر وتونس، خاصة وأنّ هذه الأخيرة هي ضيف شرف الدورة.

المشاركة حملت طابعاً رمزياً مضاعفاً، إذ تزامنت مع تكريم الراحل الطاهر غرسة، والد الفنان، إلى جانب عميد المالوف الجزائري محمد الطاهر فرقاني، لتستعيد الذاكرة لقاءات العملاقين اللذين شكّلا معاً جسراً فنياً متيناً بين المدرستين التونسية والقسنطينية.

اعتلى زياد غرسة الركح باللباس التقليدي التونسي، فحيّا جمهور قسنطينة قبل أن يقدّم باقة من أجمل المقطوعات المستمدة من المالوف التونسي والجزائري على السواء. فصدحت القاعة بأغانٍ راسخة في الذاكرة مثل "يا يا ناس جرت لي غرايب"، "في الهوى تعرف قلبي"، "ترهويجة"، "خمسة وخميس"، "يا مرحبا بولاد سيدي"، "زاد النبي"،" كل شيء مقدر مكتوب في الجبين"، و"يا عزيز قلبي"، وهي أعمال ردّدها الجمهور معه بصوت واحد على إيقاعات العود والكمان والقانون.

السهرة ازدادت عمقاً حين شارك عدلان فرقاني الفنان التونسي ركح "فرقاني"، في لحظات استحضرت لقاءات الراحلين الطاهرين، فقدّما معاً مقاطع من الاستخبار الشهير "معايا ربي يا رازق الناس ارزقني باللي في بالي"، إلى جانب أغانٍ مثل "أنا المدلّل"، "صلي وسلم على النبي المختار"، "عاشق ممحون" و"دوحي يامات دوحي".

فرقاني يرتقي وحميدو يستحضر

من جانبه، أحيا الفنان عدلان فرقاني، وهو شاب من الجيل الرابع لعائلة "فرقاني"، حفلاً فنياً أثبت من خلاله أنّ المالوف في قسنطينة ما يزال بخير، وذلك خلال قرابة ساعة من الزمن، ولقي عرضه تفاعلاً واسعاً وتصفيقاً حاراً من الجمهور، الذي وجد صعوبة في تركه يتوقف عن الأداء المميز الذي ارتقى بالذوق عالياً.

واختار عدلان فرقاني لهذه الأمسية باقة من التراث القسنطيني، من بينها مقتطفات من نوبة رصد الديل، إضافة إلى مجموعة من الأغاني التي يحفظها الجمهور عن ظهر قلب، فشاركوه الغناء والترديد طيلة الفقرة المخصّصة له.

وأشعل الفنان حميدو، هو الآخر، أجواء المسرح الجهوي، حيث رافقته آلة "الغيتار الصامت" ليقدّم وصلات أطربت الجمهور وصفّق لها طويلاً. الحضور الكبير تفاعل مع أدائه بشكل لافت، مردّداً معه الأغاني عن ظهر قلب، في مشهد عكس مكانته الخاصة لدى الجمهور القسنطيني وحبّهم لما يقدّمه من طبوع جزائرية متنوّعة.

تنقل حميدو بين روائع التراث، فغنى من قصيد محمد بن مسايب "شرع الله يا لحباب"، ومن ذخيرة الحاج محمد العنقى "صغير ومنعرفش"، قبل أن يبحر في بعض الأغاني الحوزية المؤداة بروح المالوف القسنطيني، إلى جانب "ما لي صدر حنين". ليختم وصلاته بأغنية "مالو حبيبي مالو"، تاركا القاعة تغصّ بالتصفيق.

تصريحات

الفنان التونسي زياد غرسة: مشروع تكوين موسيقي مشترك مع محافظة المهرجان

كشف الفنان التونسي زياد غرسة، في تصريح إعلامي، عن مشروع في الأفق، سيجمع بين محافظة المهرجان الثقافي الدولي للمالوف وأكادمية المالوف في تونس، التي أسّسها مؤخرا، يتمثّل في تنظيم عمل مشترك يخصّ مجال التكوين في موسيقى المالوف.

استعاد الفنان التونسي زياد غرسة ذكريات بداياته مع فن المالوف إلى جانب رائد هذا الطابع في قسنطينة، الراحل الحاج محمد الطاهر فرقاني، مؤكّداً أنّه نشأ بين محبي هذا الفن بالمدينة، حيث كان يجد بين أهلها الحب والفرح والفن الأصيل، كما اعتاد منذ طفولته الإصغاء إلى أداء الحاج فرقاني والاستمتاع به، وهو ما عزّز ارتباطه العاطفي بالموسيقى وشغفه بالفن.

وأشار غرسة إلى أنّ أول ظهور رسمي له على الخشبة كان في تونس، وتحديداً بمنطقة الحمامات سنة 1990، حين قدّم سهرة مشتركة مع الحاج محمد الطاهر فرقاني، قبل أن يشارك سنة 2004 في حفل تكريم خصّ الراحل، معتبراً تلك المحطات الفنية من أثمن ذكريات مساره الفني.

كما عبّر الفنان التونسي عن اعتزازه الكبير بالعودة إلى هذا المهرجان العريق بعد غياب دام 21 عاماً، مشدّداً على أنّ قسنطينة قلعة من قلاع المالوف وفضاء حافظ على هذا اللون الفني في الذاكرة الجماعية، كما اعتبر مشاركته فرصة لتعزيز الروابط الثقافية بين الجزائر وتونس، مؤكّدا "سأظل أدعم المهرجان ما دمت حيّاً، حضورياً أو حتى عن بعد".

الفنان حميدو: الموسيقى ليست تجارة

قال الفنان حميدو إنّ الموسيقى في جوهرها لا يمكن أن تتحوّل إلى تجارة، رغم انتشار ما يُعرف بالموسيقى التجارية في الوقت الراهن. وأشاد بمبادرة محافظة المهرجان الدولي للمالوف في إصدار كتاب موسوعي فاخر بعنوان "سفينة المالوف... مدرسة قسنطينة"، معتبراً إياه محطة أساسية في مسار توثيق التراث وصونه، معبّراً عن رغبته في الاطلاع على محتواه، وداعياً إلى تكثيف مثل هذه المبادرات لحماية الذاكرة الموسيقية الجزائرية.

وعن اعتماده على الغيتار خلال السهرة، أوضح حميدو أنه يفضل هذه الآلة لسهولة استعمالها ولقدرتها على إنتاج أنغام جميلة دون إزعاج المحيط. كما استحضر أول مشاركة له في مهرجان المالوف سنة 1981 وهو في الخامسة عشرة من عمره، حين صعد الركح رفقة الجمعيات الأندلسية، في فترة كان المهرجان يُقام خلالها في أجواء رمضانية.

محمد رضا بودباغ: المالوف يستمد جذوره من الموسيقى العيساوية

قال الفنان الجزائري محمد رضا بودباغ، المقيم في بريطانيا، إنّ عرض "حضرة وديوان" هو هدية قدّمها لمدينة قسنطينة ولمهرجان المالوف. وتابع "لا ينبغي أن ننسى أنّ المالوف يستمد جذوره من الموسيقى العيساوية، اليوم، اخترنا دمج مدرسة العيساوية مع أصوات وأنغام أخرى، ممزوجة بالجاز والبلوز، لخلق لغة موسيقية حية وعالمية".

وقال "لقد كتبت هذا العرض قبل عامين، مع سيناريو وقصة، وأعددناه على مدار سنة كاملة. وكان من المقرّر أن يضمّ في البداية نحو 45 فنانًا على المسرح، لكن مساحة الخشبة قيّدنا بعض الشيء. قدّمنا رقصة صغيرة، وكنت أتمنى لو أضفنا عددًا أكبر من الموسيقيين، خاصة آلة البيانو. المهم، مع ذلك، هو أنّ الجمهور قد تأثّر، وهذا هو الأهم".

واسترسل المتحدّث "هدفنا واضح، نقل رسالة، وإشعاع ثقافتنا وتراثنا إلى ما هو أبعد من حدودنا. الموسيقى لا يجب أن تقتصر على الاستماع أو أن تُترك جانبا، بل يجب أن تمتلك جاذبية وقوّة حية. يجب أن تسافر، أن تُفهم وتُقدّر عالميًا، لأنّها تحمل روحًا".

يواصل بودباغ حديثه "أقوم بالعروض منذ 27 عامًا في لندن، حيث وجدت الموسيقى الصوفية جمهورها المخلص، خصوصًا بين الجالية الجزائرية. لكنّها تجذب أيضًا جمهورًا من باكستان، والهند، وجامايكا، والعديد من الدول العربية..هذه الموسيقى أصبحت عالمية، قادرة على تجاوز الثقافات وخلق جسور بين الشعوب".

ليلى بورصالي: المالوف حي بأصالة جمهوره وإبداع فنانيه

عبّرت مطربة الأندلسي ليلى بورصالي عن سعادتها الكبيرة بالعودة إلى جمهور قسنطينة والمشاركة في افتتاح المهرجان الدولي للمالوف، معتبرة المدينة قلعة الموسيقى الأندلسية وفن المالوف. وأشارت إلى أن هذا الفن يجمع بين مدارس الشرق الجزائري ومدارس الغرب، مؤكّدة أن منبعه واحد رغم تنوّعه. 

كما نوّهت بدور المبدعين الجدد مثل الراحل نور الدين سعودي ومالك مرواني في إثراء التراث بتلحين حديث يحافظ على أصالته، معتبرة أن ذلك امتداد لخطى الشيوخ القدامى. واستحضرت تجربتها الفنية في الربط بين تلمسان وقسنطينة عبر لحن أصيل، مشيدة بذوق الجمهور القسنطيني ووعيه بقيمة الموسيقى الأندلسية، لتؤكد في الختام أن المالوف ما يزال حياً، وأن الفنانين الجزائريين قادرون على نقله إلى آفاق جديدة تمزج بين الجذور وروح العصر.

ل. د