الجزائر في صدارة الجهود العربية لحمايته
التعامل مع التراث كعنصر استراتيجي للتنمية

- 157

❊ التشديد على التكوين في مجال التراث والاستفادة من الخبرة الدولية
❊ البروفيسور بوشناقي صوته مسموع في المحافل العالمية
❊ الجزائر أثبتت أنّ الدفاع عن الهوية الثقافية ليس خياراً بل التزام استراتيجي
دعا البروفسور منير بوشناقي ـ على هامش تكريمه في الجلسة الأولى من جلسات التراث الثقافي في الوطن العربي التي نظّمتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) بالتعاون مع وزارة الثقافة والفنون، أول أمس، بقصر الثقافة ـ إلى التكوين في مجال التراث، والاستفادة من الخبرة الدولية في هذا المجال، سواء من خلال المختصين أو المراكز، خاصة في الفروع المرتبطة بالتكنولوجيا؛ مثل عمليات المسح الدقيق للتراث. كما طالب بإدراج مزيد من المواقع الأثرية الجزائرية، في ملفات تصنيف اليونسكو.
في كلمتها الافتتاحية لهذه الجلسة الموسومة بـ«التراث الثقافي في الوطن العربي في ظل النزاعات المسلحة"، أكدت وزيرة الثقافة والفنون مليكة بن دودة، أنّ انعقاد هذه الجلسة في الجزائر يتجاوز كونه مجرّد لقاء رسمي، بل يعكس إرادة عربية مشتركة لصون التراث، والحفاظ على الهوية. ويجسّد الدور الريادي الذي تلعبه الجزائر في هذا المجال على الصعيدين العربي والدولي. وأضافت أنّ اختيار الجزائر كمحطة أولى لهذا البرنامج الرائد للألكسو، دليل على الثقة في التجربة الجزائرية التي تواصل العمل من أجل تعزيز الثقافة العربية، وترسيخها في الوعي الجماعي.
وشدّدت الوزيرة على أنّ موضوع الجلسة المتمثّل في التراث الثقافي في الوطن العربي في ظلّ النزاعات المسلّحة، يطرح تحديات جسيمة، تتطلّب تضافر الجهود العربية والدولية. فالنزاعات لم تعد تهدّد الإنسان فحسب، بل أصبحت تستهدف الذاكرة الجماعية، والهوية الحضارية للشعوب.
ومن هذا المنطلق دعت إلى التعامل مع التراث كعنصر استراتيجي للتنمية، وركيزة أساسية للحوار والتواصل بين الحضارات. كما خصّت الوزيرة بالذكر، الدور الكبير الذي تلعبه "الألكسو" في دعم الجزائر، مشيدة بإدراج مدينة مليانة العتيقة، ضمن سجل التراث المعماري والعمراني العربي خلال الاجتماع الإقليمي العاشر في بيروت. وقالت إنّ هذا الاعتراف يعكس الديناميكية المتواصلة للمنظمة في تعزيز حضور التراث العربي على المستويين الإقليمي والدولي.
كما توقفت الوزيرة عند مبادرة الألكسو في تكريم البروفيسور منير بوشناقي، الذي يُعدّ من أبرز الخبراء العرب في مجال حماية التراث الثقافي. وأشارت إلى أن هذا التكريم ليس مجرد اعتراف بإنجازاته الفردية، بل هو تكريم للجزائر وجهودها المتواصلة في الدفاع عن التراث العربي والإنساني. وأكّدت أنّ البروفيسور بوشناقي ساهم بشكل كبير، في بلورة السياسات العربية المشتركة في مجال صون التراث. كما ساهم في تعزيز التنسيق بين المؤسّسات العلمية العربية والدولية، ما جعل صوته مسموعاً في المحافل العالمية.
وشدّدت بن دودة على أنّ الجزائر بتجربتها التاريخية العميقة، ستظلّ وفية لرسالتها الحضارية في حماية الثقافة والفنون، معتبرة أنّ التراث ليس مجرد ماضٍ محفوظ، بل هو استثمار في الإنسان، وجسر نحو المستقبل. وأضافت أنّ الأمة لا تُقاس بما تملك من ثروات مادية بقدر ما تُقاس بما تحافظ عليه من ذاكرة، وما تنتجه من فكر وثقافة، وما تقدّمه من مساهمة للإنسانية جمعاء. وتابعت قائلة إنّ الجزائر رسّخت، مرة أخرى، مكانتها كفاعل أساسي في الجهود العربية والدولية لحماية التراث الثقافي. وأثبتت أنّ الدفاع عن الهوية الثقافية ليس خياراً، بل التزام استراتيجي، وجزء من رسالتها الحضارية تجاه الأجيال القادمة.
كما كشفت الوزيرة عن استضافة الجزائر فعاليات عربية أخرى، بدءاً بـ "ملتقى مسارح الأوبرا" يومي 14 و15 أكتوبر المقبل، مروراً بـ "الملتقى العربي للتراث الثقافي غير المادي" يومي 26 و27 نوفمبر القادم، واختتاماً بـ "منتدى الاكتشافات الأثرية في الوطن العربي" شهر ديسمبر من هذه السنة. وأكّدت أنّ الجزائر ستواصل مساهمتها الفعّالة في الملفات المشتركة تحت إشراف "الألكسو"، من خلال مشاركتها في الألعاب الشعبية العربية المشتركة، ومساهمتها في ملف الفخار التقليدي.
الجزائر.. المحطة الأولى لجلسات الألكسو
من جهته، أعلن مدير إدارة الثقافة بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "الألكسو" ، الأستاذ حميد بن سيف النوفلي، عن افتتاح جلسة الجزائر ضمن برنامج الجلسات الشرفية للمنظمة، مؤكّداً حرص "الألكسو" على تنظيم هذه الفعالية في الجزائر؛ لما تمثله من شريك فعّال في المشاريع العربية المشتركة.
وأشار في كلمته إلى أنّ تنظيم هذه الجلسة يعكس إرادة عربية صادقة لحشد الجهود، واستنباط السبل الكفيلة بالتصدي للتحديات المتزايدة التي تواجه التراث الثقافي في الوطن العربي. وقال إنّ هذا اللقاء يشكّل فضاءً للتفاعل والنقاش حول قضايا مصيرية، تمسّ حاضر الأمة، ومستقبلها.
وأكّد الأستاذ النوفلي أنّ الجلسة تحمل في طياتها بعدين أساسيين، هما الاعتراف والتكريم بالقامات العلمية المبدعة، والاستفادة من خبراتها ومعارفها؛ إيماناً بأنها منارات حقيقية ينبغي الاسترشاد بها في حماية التراث، وصونه، وتوظيفه في خدمة التنمية المستدامة، وبناء مستقبل أفضل للأجيال الشابة. كما عبّر عن شعوره العميق بالمسؤولية إزاء ما يتعرض له التراث في عدد من الدول العربية من جرائم وانتهاكات، وما خلّفته الحروب والاضطرابات العسكرية من دمار هائل طال مواقع أثرية وتاريخية لا تُقدّر بثمن. وأكّد أنّ "الألكسو" تنخرط بجدية في كلّ جهد يهدف إلى المحافظة على هذا الإرث، وصونه.
واختتم بالتأكيد على أنّ جلسة الجزائر تمثل محطة مضيئة في مسار الجلسات الشرفية للألكسو. وتساهم في ترسيخ هذا التقليد باعتباره إطاراً داعماً للمبادرات العربية المشتركة، وحافزاً لتعزيز الوعي الجماعي بضرورة حماية التراث الثقافي؛ باعتباره كنز الأمة، وذاكرتها الحية.
منير بوشناقي... منقذ التراث
تلا الافتتاحَ الرسمي مداخلة للبروفيسور بوشناقي، تناول فيها مساره في خدمة التراث بالجزائر أوّلاً، ثم باليونسكو، خاصة ما تعلّق بإنقاذ التراث العالمي، ومنه العربي، من الضياع تحديداً في ظلّ النزاعات والحروب، قائلا إنّه درس التراث بالجزائر. وأجرى حفريات في كلّ من تبسة، وسطيف، وعنابة، وشرشال وتيبازة. ويرى أنّ التراث الثقافي المادي مهم جداً لفهم الهوية الوطنية. وبعد ذلك التحق باليونسكو؛ حيث أوكلت له مهمة الحفاظ على التراث العالمي. ثم أصبح مديراً للتراث الثقافي بالمنظمة نفسها. وهناك تمكن من تصنيف كل من القصبة والطاسيلي وواد ميزاب وقلعة بني حماد وتيبازة وجميلة وتيمقاد، ضمن قائمة التراث العالمي. كما ذكر أنه تم استرجاع نحو 7 آلاف قطعة أثرية مسروقة من العراق من أصل 15 ألف تم سرقتها منذ عام 2003، مبرزاً أنّ عدد المواقع العربية المسجلة في قائمة التراث العالمي، لا يتجاوز 96 موقعاً، وهو ما يستدعي تكثيف الجهود لتصنيف مزيد منها.
واختتم بوشناقي حديثه باستعراض جولاته في العديد من المدن العالمية التي تعرّض تراثها للتخريب والتدمير والسرقة جراء النزاعات والحروب؛ مثل يوغسلافيا السابقة، وكمبوديا، وأفغانستان، والعراق.
مداخلات ثرية
في المقابل، قُدّمت، بالمناسبة، ثلاث مداخلات، الأولى للدكتور المصري فرج حسين، التي قدّم جردا أثريا للمقابر التاريخية لمدينة غزة، في حين عاد الدكتور محمدو سحنوني الى الأبحاث متعدّدة التخصّصات بمنطقتي عين لحنش وعين بوشريط بسطيف التي ذكر فيها اعتماده على ثلاث تقنيات لتحديد التواجد البشري بالمنطقة، والذي يعود الى 2.4 مليون سنة، من بينها تقنية مغناطيس القضيب.
أما الدكتور التونسي لطفي النذاري فقدم مداخلة بعنوان "المعابد الثلاثة بالساحة العمومية لمدينة سبيطلة"، قال فيها إنّ هذه المعابد تفتقد إلى نقوش تعرّف بها، إلاّ أنّ هناك ثلاثة نقوشات في الباب الذي يسبقها ويؤدي إليها، مضيفا: "في العادة، الباب لم يكن يغلَق في عهد الرومان إلا إن كان هذا الباب يغلَق مساء؛ لقدسية المكان".