الملتقى العلمي حول السيادة الثقافية
تعزيز الهوية وحماية التراث مسؤولية جماعية

- 168

احتضن معهد البحوث في عصور ما قبل التاريخ، الإنسان والتاريخ، أمس، ملتقى علميا بعنوان "السيادة الثقافية، التزام شامل ومسؤولية مشتركة". وقد شكّل هذا اللقاء منصة للنقاش وتبادل الرؤى بين خبراء ومؤسسات رسمية وأمنية وثقافية، حول التحديات التي تواجه الثقافة الوطنية وسبل صون التراث وتعزيز الهوية الجزائرية في مواجهة مختلف التهديدات.
أشارت محافظة المهرجان الوطني للزي التقليدي الجزائري، فايزة رياش، في كلمتها الافتتاحية، إلى أن الثقافة لم تعد مجرد شأن تراثي أو احتفالي، بل أصبحت قضية جوهرية تتعلق بوجود الأمة وهويتها ووحدتها. وأكدت أن الثقافة الجزائرية، بما تحمله من عادات وتقاليد وآثار ومهارات وأدب وإبداع، تشكل ركيزة أساسية للمجتمع وميثاق شرف للهوية الوطنية. وأضافت أن حماية الموروث الحضاري وتثمينه تمثل واجبًا وطنيًا راسخًا، يتطلب تضامنًا محليًا ودوليًا، معتبرة أن الملتقى يشكل إطارًا للتلاحم الوطني وتبادل الرؤى حول مستقبل الهوية الثقافية.
إنجازات في تصنيف التراث
من جهته، أبرز مدير المعهد الحاضن للملتقى ومدير المركز الإقليمي للتراث غير المنادي، الأستاذ سليمان حاشي، الجهود المبذولة لتصنيف الأزياء التقليدية الجزائرية ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو. وأوضح أن الجزائر نجحت في تسجيل الزي التلمساني الخاص بالأعراس، والزي النسوي في الشرق الجزائري، كما أودعت ملفًا ثالثًا يخص الزي النسوي والحلي القبائلي. وأضاف أن هناك عملًا جاريا لإنجاز ملفات أخرى تخص اللباس الصحراوي والعاصمي. وقدّم بالمناسبة ثلاثة أفلام توثّق مختلف الأزياء الجزائرية التي نالت الاعتراف الدولي، مشيرًا إلى أن هذه الخطوة تندرج ضمن استراتيجية وطنية لصون التراث والتعريف به عالميا.
دور الأمن الثقافي في حماية التراث الجزائري
في مداخلته، حذّر ممثل الجمارك، العميد لشهب عبد الحميد، من التهديدات التي تطال التراث المادي واللامادي بسبب التهريب والاتجار غير المشروع، مشيرًا إلى أن هذه الجرائم لا تستهدف فقط القطع الأثرية أو الفنية ذات القيمة المادية، بل تمسّ عمق الذاكرة الجماعية للشعوب. وأكد أن الجزائر أعدت ترسانة قانونية متينة لحماية التراث، وأن إدارة الجمارك تساهم بفعالية في هذا المسعى إلى جانب دورها الاقتصادي والجبائي. وذكّر بعملية نوعية في مارس 2019، حيث تمكنت مصالح الجمارك بميناء الجزائر من إحباط تهريب قطع أثرية تعود للعصر الحجري الحديث كانت موجهة إلى مرسيليا.
أما ممثل الأمن الوطني، محافظ الشرطة براهيمي مراد، فقد اعتبر أن المساس بالتراث الثقافي لا يعد جريمة عادية، بل هو اعتداء مباشر على الذاكرة الجماعية للشعوب ومحاولة لتزييف التاريخ. وأوضح أن المديرية العامة للأمن الوطني وضعت مخططا عملياتيا متكاملًا يشمل مكافحة الجرائم السيبرانية عبر تتبع المحتويات غير الشرعية على الشبكات المفتوحة، ومراقبة محاولات التهريب عبر البر والبحر والجو من خلال مصالح شرطة الحدود، إضافة إلى الاستعانة بخبرات مخابر الشرطة العلمية لتحديد أصالة القطع المحجوزة.
كما أشار إلى نشاط الشرطة القضائية في التحقيق بجرائم السرقة والاتجار غير المشروع ومراقبة محلات بيع التحف القديمة. وبيّن أن هذا الجهد يُعزز بتعاون وطني مع وزارة الثقافة والفنون، ودولي مع الإنتربول، مستشهدًا بقضايا نوعية كحجز آلاف القطع النقدية الأثرية بسيدي بلعباس.
بدوره، قدّم ممثل الدرك الوطني، الرائد جبار يحي، عرضًا حول استحداث فرق متخصصة لحماية التراث الثقافي، تضطلع بدورين أساسيين: وقائي يتمثل في تنظيم دوريات بالمواقع الأثرية، وردعي يخص مكافحة الحفريات غير المرخصة. وكشف أن مصالح الدرك سجلت خلال الستة أشهر الأولى من السنة الجارية 116 قضية، أسفرت عن توقيف 104 أشخاص، سُجن ثمانية منهم، إضافة إلى استرجاع 108 قطع أثرية.
البعد الدبلوماسي والدولي
من جانبها، أوضحت الأستاذة بن طواف إيمان حموم، رئيسة مجلس حقوق الإنسان بوزارة الخارجية والجالية الجزائرية بالخارج والشؤون الإفريقية، أن الجزائر بقيادة الرئيس عبد المجيد تبون تولي أهمية قصوى لحماية التراث الوطني وصونه. وأشارت إلى أن الجزائر لعبت دورًا بارزًا في اتفاقية حماية التراث غير المادي لليونسكو، حيث كانت من أوائل الدول التي صادقت عليها، وتمكنت من تسجيل عدة عناصر رغم محاولات المنع.
وأضافت أن عضوية الجزائر في اللجنة الحكومية الدولية للتراث غير المادي سنة 2022 عززت مكانتها، كما تسعى للترشح لعضوية المجلس التنفيذي لليونسكو للفترة 2025–2029 من أجل المساهمة في تعزيز قيم الحوار والسلام بين الحضارات. وعلى المستوى القاري، ذكرت أن الاتحاد الإفريقي كلف الجزائر بإنجاز مشروع "المتحف الكبير لإفريقيا" ليكون مركز إشعاع ثقافي قارّي.
وفي مداخلة أخرى، شدد الأستاذ حموم توفيق، نائب رئيس المجلس الاستشاري والتقني لاتفاقية اليونسكو لحماية التراث الثقافي، على أهمية الإطار القانوني الذي أقرته اليونسكو في مجال حماية التراث، مشيرًا إلى أن حماية الموروث جزء أساسي من أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة لعام 2015، وخاصة الهدف المتعلق بحماية التراث الثقافي.
وأوضح أن الجزائر صادقت على معظم الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، لكنها لم تصادق بعد على اتفاقية حماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح، وهو ما يشكل ثغرة ينبغي سدّها. كما تأسف لعدم تسجيل الجزائر منذ 1992 أي عنصر جديد ضمن قائمة التراث المادي العالمي، رغم أن التصنيف يعد وسيلة أساسية للحماية والتثمين.
ودعا المتحدث إلى تعزيز وجود الجزائر في المؤسسات الاستشارية الدولية المعتمدة لدى اليونسكو. وأضاف أن من أبرز التحديات التي تواجه البلاد ضعف الاستعداد لمواجهة الكوارث الطبيعية والحرائق، فضلًا عن التأخر في الالتحاق بالمؤسسات التكنولوجية المتقدمة، مما يتطلب مزيدًا من التنسيق والعمل المنظم لضمان استدامة التراث الوطني.