توثيق الجرائم والتبليغ لردع الجريمة
حين يتقاطع حس المواطن مع حدود القانون

- 179

في زمن لم يعد شيء يمر دون أن تلتقطه عدسة هاتف، إذ أصبحت الجرائم والجنح والفوضى اليومية، توثق وتبث على الهواء مباشرة، لا عبر كاميرات مراقبة مصالح الأمن، بل من خلال هواتف مواطنين عاديين، كانوا صدفة في زمان ومكان محدد، لتوثيق فيديوهات تنشر عبر وسائط التواصل الاجتماعي، تفضح السارق في لحظة فراره، وتجسد مشاهد اعتداء في وضح النهار، وتعرض وجوه مجرمين، قبل أن تتعرف عليهم أجهزة الأمن نفسها، في خطوة تحول فيها الفرد إلى فاعل في القضاء على الجريمة وتأمين المجتمع.
برزت خلال الآونة الأخيرة، ظاهرة الاعتداءات "المباشرة"، التي تتم في وضح النهار، وسط مبالاة المجرمين بنتائج أفعالهم، متناسين أن قانونا وقواعد تحكم المجتمع، بل يتبنون منطق القوي يأكل الضعيف، ويعتمدون قانون الغابة لممارسة السرقة والاعتداء، و"الحقرة"، وغيرها من الممارسات التي تضرب بقيم المجتمع عرض الحائط. وفي الوقت الذي تسهر الدولة، من خلال أعوان الشرطة والدرك وغيرهم، في حفظ سلامة وأمن المواطنين، وبعث الطمأنينة في القلوب، يحاول آخرون هدم ذلك الأمن والأمان، بتحويل المجتمع إلى ساحة صراع ومعارك، تخلف يوميا حوادث مأساوية، وشجارات عنيفة، تنتهي في الكثير من الأحيان إلى وصول ضحايا للمستشفيات، أو حتى الموت.
وفي إطار مكافحة تلك الجريمة، تبنى المجتمع، مؤخرا، ثقافة كثيرا ما شدد أعوان الأمن على أهميتها، وهي التبليغ، لتتحول مهام بعض المواطنين إلى الوقوف جنبا لجنب مع المصالح الأمنية، والتبليغ عن كل تجاوز يلاحظونه، ليتم في هذا الصدد، توثيق تلك اللحظات عبر فيديوهات ملتقطة من أجهزة وكاميرات الهواتف الذكية، التي أصبحت في متناول الجميع بنوعيات راقية، وحديثة وذات دقة عالية في التصوير.
وبذلك، لم تعد مهمة التوثيق حكرا على الإعلام، ولا تعقب الجناة حصرا على أجهزة الدولة، صفحة محلية أو مجموعة "فايسبوكية"، أو صفحة عبر "الأنستغرام" أو "التيك توك"، قد تلعب اليوم دورا حاسما في ذلك، ليس للقبض على الجاني، وإنما مساعدة الشرطة للوصول إليه دون المرور بتعقيدات التحقيق، التي قد يحاول خلالها المجرم تضليل أعوان الأمن أو التلاعب، بل تأتي الصورة الملتقطة من تلك الأجهزة الذكية، للفصل في القضية مباشرة، وبلوغ الجاني أو المجرم في وقت ظرفي، ويتم بذلك القبض على معتد، أو استرجاع مسروقات، أو تحذير سكان حي من خطر محدق.
لكن هذه "العدالة الرقمية"، باتت تطرح تساؤلات أخلاقية وقانونية معقدة، هل نعيش عصرا جديدا من "العدالة الجماهيرية"؟ أم أننا ننزلق نحو انتهاك صارخ لحق الخصوصية. حول هذه الظاهرة المتنامية، حدثنا المحامي صدر الدين زعبور، الذي كشف الوجه الآخر لهذا السلوك الرقمي، الذي بات يربك المجرمين، وأحيانا يربك القانون نفسه، حيث قال: "إن هذه الظاهرة التي اجتاحت منصات التواصل الاجتماعي، تلقى تفاعلا جماهيريا كبيرا، حيث تشارك الفيديوهات على نطاق واسع، ويرى فيها كثيرون، وسيلة فعالة للمساهمة في القبض على الجناة، لكن، هل نحن بصدد تعزيز العدالة أم انتهاك مبادئها؟ وهل نحن شهود أم شركاء في التجاوزات القانونية؟"، مضيفا بقوله: "على المواطن، قبل محاولة المساهمة في مكافحة الجريمة، معرفة تفاصيل القانون والتفرقة بين التبليغ، وبين الكشف عن هوية المجرم أو الجاني للجمهور".
كاميرا المواطن.. عدسة تفضح وجمهور يدين
قال رجل القانون، صدر الدين زعبور، إن تلك الصفحات التي يتابعها أكثر من مليون مستخدم، تنشر يوميا مقاطع توثق حالات سرقة، عنف ضد النساء، تجاوزات خطيرة عبر الطرقات، حوادث مرور، تحرشات في الأماكن العامة، اعتداءات ضرب وشتم، وعمليات هروب لمجرمين بعد ارتكابهم جنايات، بعضها لاقت تفاعلات كبيرة، ليتم الكشف عن الهوية في أقل من ساعات أحيانا، يساهم تارة المعلقين، وتارة أصحاب تلك الصفحات، لتُسلم المعلومات للشرطة، وتواصل مجراها في التحقيق في القضية.
ولأن هذه السلوكيات الرقمية الجديدة، رغم ما تحققه أحيانا من نتائج إيجابية، يقول المحامي، إلا أنه يمكن أن تتقاطع مع قضايا حساسة، كقرينة البراءة، والحق في الصورة، والخصوصية، ويقول إنه رغم النية الجيدة لدى بعض المواطنين في التبليغ أو المساهمة في تحقيق العدالة، إلا أن نشر صور أو فيديوهات لمشتبه فيهم على المنصات العامة، قبل صدور حكم قضائي نهائي، يعد في نظر القانون مسا بقرينة، ويعني بذلك المس بحق البراءة، لأنه وفق القانون والدستور الجزائري، فكل شخص يعتبر بريئا حتى تثبت إدانته في إطار محاكمة عادلة، تضمن له فيها كل الضمانات القانونية، كما أن قانون الإجراءات الجزائية يحظر المساس بسمعة المتهم قبل صدور الحكم النهائي، فالقانون الجزائري يعاقب على التشهير والقذف، ونشر صور أشخاص دون موافقتهم، خاصة إذا ارتبط الأمر باتهامات جرمية، لاسيما إذا أراد الشخص أن يرفع دعوى قضائية ضد ناشر الفيديو، وقد يطالب بتعويضات مالية، لهذا فإن أخذ الحيطة والحذر ضروريان، والتعامل مباشرة مع الشرطة إذا وقف الشخص شاهدا على سلوك إجرامي، دون التطرق إلى نشره عبر منصات التواصل الاجتماعي.