في ذكرى رحيل محمود درويش
وصيته الأخيرة "لا تعتذر عما فعلت"

- 186

أحيا العالم العربي، هذا الأسبوع، ذكرى رحيل الشاعر الكبير محمود درويش، الذي ارتبط بقضية شعبه الفلسطيني، ليترك رحيله هذه القضية المقدسة عارية، كما عبر عن ذلك بعض المثقفين والمناضلين الأحرار، لكن اسمه يبقى حرا من كل قيد، إلا من فلسطين "سيدة الأرض وأم البدايات وأم النهايات"، التي كان ومازال شاعرًا لقضيتها.
في ذكرى رحيله 17 (رحل في 9 أوت عام 2008)، كتبت أحلام مستغانمي عنه، مستعرضة تجربته الشعرية والنضالية والإنسانية. ومما كتبته "كي تقارب محمود درويش، تحتاج إلى الكم إياه من الحزن الشاهق والموهبة الخارقة والاستخفاف الجميل، إضافة إلى كوني لا أملك مؤهلات اللؤم الذكي، أو الذكاء اللئيم الصاعق، الذي يتوهج به فتى الحزن المدلل، منذ التقيته أول مرة في بداية السبعينات في الجزائر، على أيام "سجل أنا عربي"، وحتى آخر لقاء لنا سنة 2004 في فرانكفورت، دوما كنا "عابرون في زمان عابر، نقيم في أسماء تشبهنا."
وأضافت "لا أدري إن كان محمود درويش مغامرا حقا. كل مجازفاته كانت مدروسة، وخسائره ظلت محدودة دوما، بفضل الكتابة، لكنه على الرغم من ذلك، كان أقلنا جبنا وأكثرنا نزفا، وهو يجذف من دون وجهة محددة، فقد عاش مهددا بالماء.. ومهددا باليابسة، لا يدري، أتكمن فاجعته في الطريق.. أم في الوصول؟ على مدى نصف قرن جذف محمود درويش بيد واحدة مجذافها قلم، لذا أحبه نزار قباني واعترف لي مرة، بأنه لا يحتفظ في مكتبته سوى بدواوينه من بين الشعراء المعاصرين.
حتماً كانت ناره تحتاج إلى وقود للكلمات. فعندما لا يضرم فيك النار، يوفر لك محمود درويش حطب الأسئلة.. أو بنزين الألم". سبعة عشر عاما على رحيل الشاعر محمود درويش، الذي رسخ أن القصيدة يمكن أن تكون وطنا حين يُسلب الوطن، وأن الكلمة قد تصبح جدارا يحمي ذاكرة أمة من النسيان، كما يوصف. درويش الذي ولد في قرية البروة، القريبة من عكا عام 1941، عاش طفولته على وقع النكبة، وشهد كيف تتحول البيوت إلى أطلال، والأرض إلى حدود مغلقة، فحمل قريته في حقيبة اللغة.
ينظر لدرويش على أنه لم يكن شاعرا عابرا في تاريخ الأدب العربي، بل ظاهرة إنسانية فريدة، جمعت بين رهافة الحس وعمق الموقف السياسي، وبين الغنائية العالية والتأمل الفلسفي في الوجود والموت، وقصائده لم تكن مجرد أبيات منظومة، بل كانت مرآة لرحلة جيل كامل تكسر على صخرة الاحتلال، ثم نهض من جديد ممسكًا بالقلم كمن يمسك بندقية.
من سجل "أنا عربي" التي صارت نشيدًا للمقاومة، إلى الجدارية التي كتبها وهو يحدق في وجه الموت، ظل درويش ينسج خيوط اللغة بمهارة صائغ، يعرف أن كل كلمة قد تكون آخر ما يكتبه إلى اليوم، تُقرأ قصائده في المدارس، وتغنى في الحفلات، ويُستشهد بها في الخطب والكتابات، وكأنها ولدت أمس، صار درويش مدرسة كاملة في الشعر العربي الحديث، وأيقونة ثقافية تربط بين الأجيال.