قراءة في رواية "بعيدا عن الأعين" بالمكتبة الوطنية
عرفان بأودان الذي دفع حياته ثمناً لحرية الجزائر

- 125

نظّم المجلس الوطني للفنون والآداب، أوّل أمس، بالمكتبة الوطنية، ندوة حول رواية "بعيدا عن الأعين" الصادرة مارس الفارط للكاتب سليم عبادو؛ تخليدا لذكرى اختطاف مناضل الثورة التحريرية الفقيد موريس أودان، تضمنت تفاصيل حياته، وكفاحه.
بالمناسبة، أشار الدكتور محمد رضا بوخالفة من معهد الترجمة بجامعة الجزائر، إلى أنّ زوجة المناضل أودان ظلّت لأكثر من ستة عقود، تبحث عن الحقيقة، وتحمل ذلك الألم بداخلها.
أسماء لا تموت
أضاف المتحدث أنّ الصمت كان أقوى من الذكرى، معتبرا أنّ هناك أسماء لا تموت؛ لأنّها ليست من ورق؛ منها الراحل أودان، الذي اختار الحقيقة التي هي الجزائر، وبالتالي جاءت الذاكرة كفعل وفاء لإيصال الحقيقة. وكانت الكلمة بديلا عن الغياب، مؤكّدا أن ما يقلق ليس الغياب، بل النسيان، فالبعيد عن الأعين ليس غائبا، بل موجود في صميم الوجدان. وهنا تطرّق لجيل المناضلين إبان الثورة التحريرية من الأجانب؛ منهم الفرنسيون، الذين افتخرت بهم هذه الثورة؛ كونهم اصطفّوا طوعا في صف العدالة، ليدفعوا الثمن غاليا بتعرّضهم للمخاطر، لكن التاريخ كتب أسماءهم في جدار الذاكرة.
وقال الدكتور بوخالفة إنّ أودان أُعدم في 11 جوان 1957 من طرف المظليين. وتم اغتياله في سرية. لكن تم الإعلان عن أنّه هرب، ليؤكّد المتحدث أنّ لجنة موريس أودان أوصلت صوتها إلى مختلف الأوساط، مندّدة بالتعذيب في الجزائر . كما نوّه بما قامت به الجزائر المستقلة تجاه هذا المناضل الرمز؛ من خلال إطلاق اسمه على فضاءات بالعاصمة (ساحة ومدخل الجامعة)، وكذا تخصيص جائزة للرياضيات تحمل اسمه، داعيا بالمناسبة، إلى إحياء اسمه ومن رحلوا؛ فداءً للجزائر من خلال الفنون. واقترح مشروعا وطنيا، من مهامه ترميم الذاكرة المجروحة، وتحميل الفنون مسؤولية هذه الذاكرة، ونقلها للأجيال؛ كي لا تُنسى في المستقبل.
دعوة للترجمة
بدورها، تناولت الدكتورة انشراح سعدي من جامعة الجزائر في تدخّلها، رواية "بعيدا عن الأعين" ، علما أنها هي من كتبت تبيانها، مشيرة إلى أنّ هذه الرواية تطرّقت للمهمّش في حياة أودان. وهي بمثابة شهادة تاريخية. وهي، أيضا، دليل على العرفان، وبأنّ الجزائر لا تعادي الفرنسيين، بل تعادي الاستعمار، وبذلك تشهد لمن وقف معها ضدّه. وقد حثّت في بداية تدخّلها على ضرورة ترجمة هذه الرواية.
وأكّدت الدكتورة سعدي أنّ هناك ارتباكا في الصورة حين يرى القارئ العنوان؛ أي أنّ هناك حقيقة ما مخفية، تعكس التدرّجات بين الرمادي والأسود، وبالتالي فإنّ الرواية تقف عند حلقة بعينها.
وقالت المتحدثة إنّ الرواية تنطلق أحداثها سنة 1972 حين مناقشة رسالة دكتوراه أودان للرياضيات في غيابه، في مشهد حزين ومؤثر، لتعود الأحداث بعدها إلى طفولته، وأسرته، وحياته في فرنسا، وتونس، والجزائر. وقد أشارت الدكتورة الناقدة انشراح سعدي، إلى أنّ أودان وُلد في ثكنة عسكرية، علما أنّ عائلته قبل ولادته بسنة، فقدت أخاه الأكبر. وبتواتر الأحداث والتجارب في حياة هذا الإنسان، قرّر أن يختار الجزائر. وهنا تستعرض مقطعا من الرواية يقول إنّ فرنسيا سمع من وراء باب غرفة أودان بالمستشفى، يقول لجزائري معه: "أنا جزائري من أصول فرنسية"، علما أنّ والدته الفرنسية "ألفونسين" ، كانت، أيضا، تحمل هذا الانتماء، وتحنّ لمسقط رأسها بمدينة القليعة، وتتمنى الرجوع إليها متغنية بجمال الجزائر.
وضمن الشرح الهوياتي قالت المتحدثة إنّ الحقائق والوقائع التاريخية قد لا يبرّرها التاريخ، وإنّما الأدب هو القادر على تلك المهمة. وذكرت أيضا استياء المناضل أودان من الدراسة والخدمة العسكرية، وتضامنه مع الجزائريين والهمجية التي كان يعامل بها المناضلون الفرنسيون. وقد اختارت المتدخّلة بعضا من الفقرات، وأقوال بعض أفراد عائلة أودان، التي توحي بمدى تذمّرها من المستعمر الذي ذاق مرّه حتى الفرنسيون أنفسهم.
أما كاتب الرواية الدكتور سليم عبادو، فقال إنّه كتب عن وعي، مؤكّدا أن من "واجبنا الحفاظ على الذاكرة؛ من أجل أمن ثقافي وتاريخي لبلادنا" ، مضيفا: "نكتب عن أبطالنا بعدما كان الغير من وراء البحر هم من يكتبون في غفلة منا، وبالتالي لا بدّ من ملء جزء من تاريخنا بدل أن يملأه الغير".
كما أكّد صاحب الرواية أنّ ما حفّزه على الكتابة هو أنّ تاريخنا مليء بالوقائع التاريخية، مشيرا إلى أنّ الرواية التاريخية ليست تاريخا؛ فالأدب يركّز على البعد الإنساني.
أودان اختار الجزائر رافضا العسكرية الفرنسية
عن حياة موريس أودان تنطلق الرواية من يوم مولده بثكنة الدرك الفرنسي بباجة في تونس. ولما تحصّل على الابتدائية التحق بالمدرسة التحضيرية بحمام ريغة (كانت محطة معدنية حُوّلت إلى مدرسة). بعدها انتقل إلى المدرسة العسكرية بقرية نائية غرب فرنسا، ولم يتحمّل حينها أن يكون عسكريا، وهو الرجل العاطفي الرقيق الذي يحسّ بالآخرين. وكره الجيش الفرنسي الذي ولد في حضنه. وتعلّم من أمه روح التضامن حينما كان يراها تنسج القمصان لأبناء اللاجئين الإسبان إبّان حربهم الأهلية. وبالمقابل تذمّر من الجيش الفرنسي الذي كان يقمع مظاهرات العمّال الفرنسيين، ثم جرائمه في مجازر 8 ماي 1945، وقهر الجيش لوالده العسكري، لكن موريس تمكّن من الإفلات، ويدخل جامعة الجزائر كأستاذ مساعد ليحضّر رسالة دكتوراه في الرياضيات. وقبلها كان انخرط في الحزب الشيوعي. وفي 1955 التحق بصفوف الثورة، وقام بعدّة عمليات ضدّ الجيش الفرنسي، ليختفي في 11 جوان 1957. وفي سنة 2018 جاءت شهادة أحد من شارك في دفنه بعد تعذيبه بفيلا الأبيار. ثم كان الاعتراف بالجريمة رسميا من الرئيس الفرنسي في بيت جوزيت أرملة موريس. هذه الأخيرة التي قرأ الدكتور عبادو أحد أقوالها، وهي: "اخترنا معسكرنا، وتخندقنا مع الشعب الجزائري".
وقال صاحب الرواية إنّ الكتابة السينمائية المشهدية هي الأبقى من الكتاب، مؤكّدا: "أنا كتبتها بطريقة مشهدية بحركة وحوار، ما يساعد في تحويلها سينمائيا، علما أن القيمة الحقيقية التي تبقى، هي الصورة".
وأثناء النقاش ردّ الكاتب بأنّه لا يغيّر الوقائع التاريخية، إنّما يسدّ الثغرات بكتابة فنية جمالية حتى تكتمل الرواية، مشيرا إلى أنّه اعتمد على وثائق تاريخية، وشهادات وتصريحات حية، منها كتاب ابنة أودان الكبرى ميشال الوحيدة الباقية من عائلته الصغيرة (رحيل زوجته جوزيت وابنه لويس الذي كان عمره سنتين حين اغتيال والده موريس، وكذا بيار الذي كان عمره 3 أشهر). كما أوضح الكاتب عبادو أنّه أدخل الرياضات إلى الرواية؛ على اعتبار أنّه طبيب كان يعشق الرياضيات، ليقدّم للقارئ مسائل رياضية مع حلّها، جاءت في رسالة دكتوراه موريس، وبالتالي إدخال جمهور الأدب إلى الرياضيات.