تجمع بين سحر البحر والطبيعة والتاريخ المضيء

"شولوس" أو القل.. جنّة فوق الأرض

"شولوس" أو القل.. جنّة فوق الأرض
  • 158
بوجمعة ذيب بوجمعة ذيب

تُعدّ مدينة "شولوس" أو القل أو "رأس بوقارون" أو شبه جزيرة القل الواقعة على بعد حوالي 70 كلم غرب سكيكدة، من بين بلديات الولاية التي حباها الله بموقع يجمع بين سحر البحر وروعة الجبال الممتدة على طول جبلي "دامبو" و"سيدي عاشور" . وأكثر من ذلك، فهي مدينة التاريخ، والثوار، والحركة الوطنية، وعاصمة الولاية التاريخية الثانية.

زائر شبه جزيرة القل ستشدّه، دون شك، شواطئها الساحرة الخلابة التي تختلط مياهها الزرقاء باخضرار الغطاء النباتي الذي يحتضنها من كل مكان، مشكّلا بذلك "فسيفساء" طبيعية أبدع الخالق في تشكيلها. كما ستشدّه طيبة سكّانها الذين على مدار السنة، يفتحون أحضانهم للزّوار والسيّاح. وفي كلّ هذا تبقى عاصمة "شولوس" مدينة ساحرة متميّزة وفريدة من نوعها على المستوى الوطني. ويكفيها فخرا أنّها مدينة اختزلت كل ما مرّ بها من تاريخ قديم وحديث. مدينة قاومت بكلّ كبرياء وشموخ، كل العواصف، لتبقى قلعة تروي لزوّارها بكلّ فخر، حكاياتها وقصصها عن تاريخها المضيء، وعن الخيرات التي وهبها إيّاها الله.

"شولوس" الحضارة والتاريخ.. عروس المتوسط

تبقى مدينة القل التي تعود إلى جذور الكتامية والتي تعاقبت عليها عدة حضارات قديمة من فينيقية ورومانية وعثمانية، عروس حوض البحر المتوسط دون منازع، وقِبلة السياح، ومدينة سياحية ترعاها بركة سيدي الكبير، ويحميها جبل "سيدي عاشور" الذي يعلو المدينة بشموخ؛ كأنه حارسها الأمين، بخلاف جبل "دامبو" من جهة البحر، الذي أرادته الطبيعة أن يكون ديكورا، يضفي على المنطقة بهاء، وعلى شبه جزيرة القل هيبة.

جمال متفرد ومشاهد بانورامية حالمة

أكد كل الذين زاروا هذه المدينة العريقة، أنها تُعد إحدى أجمل المدن الساحلية على المستوى الوطني، بما تتميّز به من شواطئ ساحرة بمياه زرقاء نقية، تمتزج، بشكل ساحر وفريد، باخضرار غطائها النباتي، وبغاباتها الكثيفة التي تحتضن مختلف أنواع الأشجار، خاصة أشجار البلوط، والصنوبر البحري، والحشائش، والأحراش، والنباتات العطرية التي تنبعث منها روائح منعشة، وسط أصوات زقزقة الطيور وأصوات الأمواج حينما تصطدبم بالصخور، وبأصوات نوارس البحر، في مشهد بانورامي طبيعي حالم، يعكس، بصدق، سحر المكان الآمن. وكلّما توغّلنا باتجاه المدينة عبر طرقها الملتوية، تتراءى لنا شواطئها؛ كـلقبيبة، ولبرارك، وبني سعيد، وكسير الباز، وعين الدولة، وعين أم لقصب، وتلزة وتمنارت، وخليجها الذي يعلوه "رأس بوقرون"، الذي يُعد من بين أشهر الخلجان في الجزائر، و"منارة" شبه جزيرة "الجردة" ، التي تطل على المدينة من الأعلى، فتبدو لنا مدينة القل وكأنّها جنّة الله في الأرض.

مسجد "سيدي علي الكبير" شاهدٌ على عراقة المدينة

وبالقل، وبعد أن نجتاز محور الدوران الذي تعلوه سفينة، أوّل ما يستقبلنا إلى جانب الميناء، مسجد "سيدي علي الكبير" الذي يُعدّ أحد الآثار الرومانية التركية الإسلامية الشاهدة على عراقة المدينة، ومكانتها في أعماق التاريخ القديم، حيث استقطب كثيرا من العلماء والأئمة على مر الأزمنة والعصور، آخرهم الشيخ زهير الزاهري، الذي عُيّن إماما بجامع مدينة القل سنة 1942م، والإمام الوردي، كما كان حاضناً لثورة التحرير المباركة. وحسب الروايات، كان مسجد القل العتيق الذي يطلّ على بوابة البحر من الجهة الشرقية، في البداية، معبدا رومانيا لآلهة البحر والمحيطات "نبتون"، ليتحوّل في العهد العثماني، إلى مسجد. 

ويعود الفضل في ذلك، حسب نفس الروايات، إلى الحاكم أحمد باي بن علي القلي جد أحمد باي بن محمد الشريف، الذي وعد سكّان المنطقة، إن وفّقه الله وأصبح حاكما، بأن يبني لهم مسجدا، فلما عُيّن حاكما في قسنطينة اتصل به سكان هذه المنطقة، لتذكيره بوعده والوفاء بنذره، فجاء بنفسه لمعاينة المكان. ثم أمر ببناء المسجد في هذا المكان بالذات، وكان ذلك سنة  1756م.

وعرف المسجد العتيق بالقل عدة عمليات ترميم. وكانت أول عملية في سنة 1933 في فترة الاستعمار الفرنسي، ثم سنة 1985، وكذا في سنة 2013، حيث أعادت عملية الترميم التي خضع لها، الوجه التاريخي والمعماري القديم بعد أن خصّصت له وزارة الثقافة، آنذاك، غلافا ماليا قدّر بأكثر من 4 ملايير سنتيم، ليصنَّف ضمن المعالم التاريخية والأثرية المحمية. كما تستقبلنا حديقة المدينة التي تقابلها كنيسة القديس "سانت-أندري" التي بُنيت عام 1862، وتُعد مَعلما موروثا عن الاستعمار الفرنسي. وحُوّل بعد الاستقلال إلى مكتبة للمطالعة، ناهيك عن مسجد "التواتي" العتيق.

مدينة عريقة بطابعها المتميّز

وما يميّز مدينة القل التي كانت تضمّ  عند احتلالها من قبل الاستعمار الفرنسي سنة 1848م، 4 أحياء هامّة، وهي بير الطويل، وبير قائد، وحي محمد الوالي، وشبه جزيرة الجردة بالإضافة إلى أحياء أخرى ظهرت مع مر العصور، وهي بين لفكارن، وعين البرج، والطهرة، وطهر الحمام، وعين الدولة، وبومكساو، وبوصبحان، وطهر لقزاير، وطهر الكوشة، ونهج خنات، أنّ الكثير من مبانيها ماتزال تحافظ على معمارها القديم، لا سيما التركي منها، وعلى أزقتها الضيقة التي ماتزال تحافظ على هويتها الخاصة. كما تنتشر بها العديد من المطاعم التي تقدم خدمات راقية من الأطباق التقليدية، خاصة السردين، ومختلف أنواع الأسماك المطهوَّة على الجمر، وكذا محلات بيع مختلف الخضر والفواكه، التي يتمّ جلبها من حقول فلاحي المنطقة.

كما تُعدّ القل مشهورة في تحضير بعض الأطباق التقليدية، التي مايزال القلّيون يحافظون عليها، لا سيما الكسكس بسمك البونيط ذي نكهة خاصّة، وطبق "القريتلية" القلية، والكسرة بالشعير، أو الكسرة المصنوعة بزت الزيتون...، وغيرها من الأكلات، بينما تتميّز المنطقة بكورنيشها الممتد على طول شاطئي "عين الدولة" و"الفتيات الصغيرات"، دون نسيان الممر الذي تمت تهيئته مؤخرا بالسلالم، والمؤدي من شاطئ عن الدولة أو المنبع، إلى منطقة "غديرة الحوت" . كما يوجد في الجهة المقابلة طريق الفنار الممتد على شبه جزيرة القل. أمّا ليلا وعلى امتداد الكورنيش، فتتلألأ على الجهة المقابلة منه، الأنوار المختلفة للمحلات والفنادق، التي تقدّم خدمات راقية للزوار.

كنوز طبيعية متنوعة تزخر بها الجهة الغربية

ولا بد أن نشير هنا إلى جانب مدينة القل كمدينة متفرّدة، إلى أن الجهة الغربية من الولاية تزخر بأماكن سياحية، تُعد، هي الأخرى، من بين أجملها على المستوى الوطني، منها جبل القوفي بسيوان، وغابة تيزغبان الساحرة والمتلونة، وغابة لمقاتل ببلدية أولاد أعطية، وغابة حجر مفروش الكثيفة بإقليم بلدية عين قشرة، إلى جانب شلال أفنسو، وعين السدمة، والرمامرية بإقليم بلدية قنواع، وشلال توتوش ببلدية أخناق مايون، بالإضافة إلى سدَّي الولجة بوالبلوط وبني زيد، ووادي الرميلة ببلدية وادي الزهور، ووادي وتمنارت بشاطئها الساحر بإقليم بلدية الشرايع، ناهيك عن الأماكن الثرية التي تعود لمختلف الحقبات التاريخية.

القل بحاجة إلى استثمارات كبيرة

وفي كلّ هذا، تبقى مدينة القل بتاريخها العريق الضارب في أعماق التاريخ وما تزخر به من مؤهلات سياحية حقيقية ومن معالم تاريخية ومن آثار رومانية وفينيقية وعثمانية ومن شريط ساحلي وثروة غابية، قطبا سياحيا بامتياز، ولن يتحقق لها ذلك إلا بتدعيمها بمشاريع كبرى، كإنجاز قرى سياحية، سواء على طول شريطها الساحلي، أو على مستوى مناطقها الغابية، التي تحتاج إلى التفاتة حقيقية، مع دفع المستثمرين للاستثمار فيها بعد التعريف بها.