"الفلسفة ورهان الكتابة التاريخية" بالمكتبة الوطنية

عندما يتجاوز الفيلسوف مهنة المؤرخ

عندما يتجاوز الفيلسوف مهنة المؤرخ
الدكتور ميلود بلعالية دومة
  • القراءات: 409
مريم. ن مريم. ن

ألقى الدكتور ميلود بلعالية دومة، أول أمس، بالمكتبة الوطنية في الحامة، محاضرة بعنوان "الفلسفة ورهان الكتابة التاريخية"، في إطار البرنامج الوزاري "منتدى الكتاب"، بالتنسيق مع الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، وقف فيها عند العلاقة بين التاريخ والفلسفة، موضحا أنها تتجاوز حدود التجربة التاريخية وتنتبه لما غفل عنه المؤرخ.

استهل المحاضر تدخله بسؤال يقول "ماذا يستفيد الفيلسوف من التاريخ وكيف يخدم المؤرخ الفيلسوف؟"، مجيبا أنه اشتغل على فلسفة التاريخ التي تستعرض هذا الموضوع، ليضيف أن الفيلسوف اشتغل في التاريخ لحساب الفلسفة، ليقع في نوع من الميتافيزيقا، فقرر إعادة النظر في ذلك، من خلال الاستماع للمؤرخ نفسه، ومن ثمة المراهنة على الكتابة التاريخية، لسبب أن الفلسفة لم تعد تكفي ذاتها بذاتها، ولا تقدم كل الحلول، علما أن علاقة الفيلسوف بالمؤرخ كانت تَحضُر في صيغتين "فلسفة بالتاريخ" و"تاريخ بالفلسفة"، وكان الاعتقاد أن التاريخ جزء من الفلسفة، ما جعل الأفق مسدودا.

أشار المتحدث، إلى أن الفيلسوف ساءل التاريخ لبناء نسق فلسفي وكفى، إلى أن جاءت مدرسة الحوليات التي أعادت الاعتبار للتاريخ، فظهرت فلسفة الكتابة التاريخية للخروج من أزمة الفلسفة، التي جددت مواردها من خارجها، ومن شيء لا فلسفي، معتبرة (أي هذه المدرسة) أن التاريخ هو الحقل التطبيقي لاختبار مقاصد ومزاعم الفيلسوف، ثم أنه على هذا الفيلسوف أن يبحث لإيجاد معنى للتاريخ، انطلاقا من الإصغاء لمهنة المؤرخ، حتى يستعيد التفكير في قضايا الفلسفة، انطلاقا من هذه التجربة.

للإشارة، ركز المحاضر على المدرسة الحولية (الحوليات)، ثم على جدوى التاريخ، وما الفائدة منها؟ وقال "عندما لا ينتبه المؤرخ لموضوع أو معنى ما، يأتي هنا دور الفيلسوف ليكون له مشروعية البحث في مواضع الالتباس التي لا ينتبه لها المؤرخ وينتبه لها حدس الفيلسوف".

كما أضاف أن التاريخ هو نشاط المؤرخ، أما التاريخ كواقع وكمجرى، فالفيلسوف هو من يصل إليه من خلال تجربة المؤرخ التطبيقية وليست النظرية، موضحا في نفس الوقت، أن التاريخ ليس مطلبا علميا فقط كباقي العلوم الأخرى، بل إنه مطلب اجتماعي وسياسي يتجاوز المؤرخ إلى الإنسان والمواطن، ويتجاوز أيضا حدود التجربة التاريخية.استحضر المحاضر بالمناسبة شخصيتين، أولهما الفيلسوف الفرنسي بول ريكور الذي اهتم بمشكلة التاريخ، ليحل معضلات الفلسفة، وعلى رأسها مشكلة الزمن، فاستطاع تقديم شكل للزمن نقرأ به النص التاريخي بآليات السرد، زيادة على حل مشكلة الذاتية والموضوعية، علما أنه لا حياد في التاريخ، لكن هذا التدخل الذاتي يكون وفق مناهج وأدوات علمية (ذاتية ملتزمة بالبحث).

ذكر الدكتور بلعالية أيضا، أن الفيلسوف يصغي للمؤرخ لبناء فلسفي ما وينتبه لما يتجاوز المؤرخ، مؤكدا أن السرد التاريخي مبني على الحكي المستمر والدقيق، وهو ما يعزز التفسير ضمن البنية الخاصة بالكتابة التاريخية، وهنا قال، إن في العالم العربي يتم استدراك فكرة إعادة الاعتبار للسرد في التاريخ وفن الرواية، وفق المناهج الحديثة، وقال حكي أكثر هو تفسير أكثر وفهم أفضل"، عكس ما هو موجود في علوم أخرى.

عن الغيرية، قال الدكتور بلعالية دومة، إنها خطاب التاريخ للآخر، واكتشاف للذات الأخرى غير المعلنة في دواخلنا تخص هويتنا.

الفيلسوف الثاني الذي وقف عنده المحاضر مطولا، هو الجزائري بوخاري حمانة الذي اعتبر التاريخ درسا للفلسفة، مؤكدا أنه لا حياد في التاريخ، مشترطا وجود خلفية وحضور تراث ما يدفع للذاتية، رغم تطور أساليب الكتابة التاريخية من حيث المنهج والتقنية، كما أكد هذا الفيلسوف، أن هذا التاريخ يفيدنا في اكتشاف المستقبل وتدارك ما كان مغمورا ومهمشا في التاريخ.

أشار المحاضر أيضا، إلى أنه بدأت تطفو على السطح في الكتابة التاريخية ظاهرة إصغاء الفيلسوف للمؤرخ، وهو ما يعرف بموجة التاريخ الجديد، أي الجيل الثالث من مدرسة الحوليات، مع مراعاة التشابك الزمني، بمعنى أن الحاضر غير ساكن بل مرتبط باللحظة التي سبقته وبالمستقبل الوشيك، فلا يمكن فهم واقع اجتماعي ما بناءً على الحاضر وحده، بل يتطلب ذلك وعيا تاريخيا، بالتالي على الفيلسوف استكمال مشروعه التاريخي باعتماد العقل العملي المجرب وليس المنظر.