في الذكرى 32 لوفاة الأب الروحي والفقيه المفتي سي عطية مسعودي

يمضي الرجال ويبقى الأثر

يمضي الرجال ويبقى الأثر
  • القراءات: 202
بقلم حفيد الشيخ: ع. بلقاسم مسعودي بقلم حفيد الشيخ: ع. بلقاسم مسعودي

عاتبني أحد المثقفين، (والعتاب لا يأتي إلا من يكن لك المحبة)، على عدم النشر الواسع لجوانب من شخصية جدي رحمه الله، ليستفيد الناس من علمه، وأنني أعرف وأترجم للعلماء، والمثقفين، والسياسيين، من الخارج والداخل، خاصة هذا الجيل الذي يجهل الكثير عن علماء الجزائر. فكان الرد: لقد أنشأت موقعا إلكترونيا ثريا بالمخطوطات، وأنا أثابر على إدراج أي وثيقة أو معلومة تصلني، وأضفت "أنه من الصعب، والحرج أن يكتب الإنسان عن نفسه، أو عن أحد أقربائه، انطلاقا من الآية الكريمة "ولا تزكوا أنفسكم"، وأضفت أن أكثر من 300 طالب قد تتلمذوا على يدي جدي، وهم الآن رجال إفتاء، وعلماء، وإطارات، فكان على هؤلاء تذكره ولو بكلمة، وهم الذين كان يقول عنهم "أبناء القلب أقرب إلي من أبناء الصلب". فرد علي؛ وهل إذا تنكر له هؤلاء، تتنكر له عائلته؟ وهنا لم أجد ما أقوله، وقررت أن أعرض لمحة عن حياته، علها تفيد كل مهتم وباحث.

نسبه ونشأته: 

هو عطية بن مصطفى مسعودي الإدريسي الحسني، نسبة إلى إدريس الأصغر ابن إدريس الأكبر، وصولا إلى الحسن السبط ابن سيدنا علي كرم الله وجهه، وفاطمة الزهراء بنت النبي صلى الله عليه وسلم. وهو من قبيلة أولاد نائل، ولد بزاوية الجلالية الكائنة على مشارف مدينة الجلفة سنة 1900م، وحفظ القرآن وعمره لا يتجاوز سبع سنوات على يد أخيه الأكبر العلامة سي الهادي، وأخذ عنه بعض المبادئ في العلوم الدينية، ثم انتقل إلى زاوية الشيخ عبدالقادر الطاهري بمدينة الإدريسية، ودرس عنه علم التوحيد والفقه، ثم ارتحل طلبا للعلم في مختلف جهات القطر الجزائري، حيث درس في زوايا بلاد القبائل (زاويتا عين الحمام وسيد على أوموسى)، ثم عاد إلى الجزائر العاصمة، حيث درس عند العلامة عبد الحليم بن سماية مفتي العاصمة في العشرينيات، وهو من تلاميذ الشيخ محمد عبده، رحمه الله.

مكث الشيخ عطية أكثر من سبع سنوات عند عائلة سيدي محي الدين أولاد الباي، حيث كان رحمه الله يذكر دائما تلك العائلة بكرم الضيافة وحسن الرعاية، ثم انتقل إلى زاوية الشيخ عبد القادر الحمامي ودرس بها، وبمدينة البليدة درس عند الشيخ بن جلول دفين ثنية الأحد، ثم عاد إلى الجلفة وعمل بالتدريس، وكان أول مدرس في مدرسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وأثناء الزيارة التفقدية للشيخ ابن باديس الجلفة، سنة 1931م، استمع باهتمام إلى بعض دروس الشيخ عطية وأُعجب كثيرا بغزارة علمه وبداهته، وبعد فترة قصيرة، عُين إماما خطيبا بالمسجد الكبير بالجلفة، وأسندت له قيادة جيش التحرير بالمنطقة مسؤولية الإفتاء والقضاء بين الناس أثناء الثورة التحريرية المباركة، واستمر في القضاء إلى غاية استقلال الجزائر في 05 جويلية 1962، وتشكيل الدولة والحكومة الجزائرية الرسمية، ومن الذين لازموه لمدة طويلة، الشيخ نعيم النعيمي رحمه الله، حيث بقي عنده لمدة سبع سنوات، ومن بين تلاميذه هناك الإمام والمدرس والأستاذ الجامعي، وحتى الإطارات التي تعمل في مختلف مؤسسات الدولة الجزائرية المجيدة، ومنهم من اختير أن يكون إماما خطيبا في الدول الأوروبية، وبعضهم هم حاليا شيوخ للزوايا.

بعض مواقفه: 

قصته مع الجنرال بلونيس (عميل لفرنسا): لقد أصبحت مواقفه مضرب المثل، لما يتميز به من إخلاص وصدق وصدع بكلمة الحق، حتى في أصعب المواقف، فلقد بعث له ذات يوم بلونيس وهو في أوج غطرسته واستبداده واستخفافه برجال الدين وحبه لسفك الدماء، بعث له أحد ضباطه مصحوبا بأحد الجنود وهما مسلحان، فاقتحما مقصورة الجامع التي كان يدرس فيها، حتى يشيع الخوف والذعر فيمن وجدهم حوله يستمعون إلى دروسه، وقال بلهجته المتعجرفة، من هو الإمام عطية؟ فقال له أحدهم هذا هو الشيخ الذي أمامك، وأشار إلى الشيخ سي عطية الذي كان يتوسط المجلس، فقال له على الفور، إن الجنرال محمد بلونيس يأمرك أن تلقي خطبة هذه الجمعة، فتشيد به وبحاشيته، وتشتم بالمقابل جبهة التحرير، وإلا سنفعل الواجب وهو يلوح بسلاحه، فقال له الشيخ تغمده الله برحمته؛ كم عمرك يا ولدي؟ فقال له؛ عمره ثمان وعشرون سنة، فقال له الشيخ ببداهته المعهودة: أنت عمرك 28 سنة ولا تعرف إن كنت على خطأ أو صواب، ومع ذلك تضحي بنفسك: فكيف لا أضحي بنفسي وعمري يقارب الستين سنة وأعلم علم اليقين أنني على صواب، الدين مثل الكف والأحزاب مثل الأصابع، فالأصبع هي التي ينبغي لها أن تعود إلى اليد وليس العكس، قل للذي أرسلك سوف لن تسمع مني غير هذا، افعل ما بدا لك، فخرج الضابط ورفيقه في حالة هيجان وثورة وغضب متوعدا الشيخ بالموت قبل الجمعة، ويشاء الله أن يتم اغتيال الجنرال بلونيس ومن معه قبل يوم الجمعة، من طرف أحد عناصر جيش التحرير، وهو منطقة فيض البطمة بولاية الجلفة.

ومن الحوادث الجديرة بالذكر، والتي جرت له مع أحد القساوسة في أثناء تجواله طلبا للعلم، وعمره لا يتجاوز أربعا وعشرين سنة، حيث كان هذا القسيس المسيحي يضع بين يديه مجموعة من الأناجيل في إحدى الساحات العامة وحوله جمع من الناس، فكان يقول لهم، إن عيسى ابن مريم حي، وأنتم تقولون بأنه لازال موجودا، ومحمد قد مات والحي أفضل من الميت، فوجئ الجميع وتملكتهم الحيرة، فانبرى له الشيخ سي عطية وقال له: هل أمك حية؟ فقال له أجل، فرد عليه بسرعة إذن أمك أفضل من السيدة مريم، مادامت تقول بنظرية الحي أفضل من الميت. 

وبعد الاستقلال، جاءه ثلاثة رهبان مسيحيين وطلبوا منه أن يتحاوروا في أمور الدين، فلم يعارض المرحوم، وإنما قال لهم: آمنا بما أنزل إلينا وما أنزل إليكم، فقال أحدهم هل يعارض الله تعالى ما قاله بالأمس بما قاله اليوم؟ فقال الشيخ: كلام الله صادق لا يتعارض ولا يتناقض، وإنما قوله الحق المبين، فقال أحد الرهبان: لكن مادام قد بعث عيسى عليه السلام، فلماذا يبعث بعده بغيره؟ فرد الشيخ ببداهته المعهودة: من هو رئيس الدائرة الحالي؟ فقالوا له اسمه، فقال لهم من هو رئيس الدائرة السابق، فذكروا له اسمه فقال لهم: إذا أرسل لنا كل من الرئيس السابق والحالي فلأمر أيهما نستجيب؟ فقالوا: لرئيس الدائرة الحالي، فقال هكذا تكونون قد أجبتم أنفسكم، ففهموا مقصده واستأذنوا بالانصراف.

ذات يوم، سأله أحد الأساتذة من إحدى البعثات الأزهرية من (مصر)، وكان ضمن مجموعة من زملائه: ما الحكمة يا شيخ في ذكر العدد 46 في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الرؤية الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة) فقال فضيلته: لم أطلع على الحكمة من ذكر هذا العدد بالذات في شروح الحديث التي قرأتها، لكن الاستنتاج الذي اهتديت إليه، أن الفترة التي مكثها الرسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء،  والتي استمرت 6 أشهر، هي بمثابة الإرهاص (أي الرؤية الصالحة)، الذي سبق النبوة تمثل واحد على 46 من مجموع فترة الدعوة النبوية، التي هي ثلاث وعشرون سنة، وهذا يوضح المعنى المراد من ذكر العدد في الحديث النبوي الشريف.

من بين إجاباته التي تتسم بالذكاء وسرعة البديهة أن أحدهم سأله: لماذا لم يقيض لنا الله خليفة، مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعالى في عدله وإخلاصه وتقواه، فقال الشيخ: نحن لسنا الصحابة، لهذا فالذي يحكمنا ليس عمر بن الخطاب.

في أحد الأيام، جاءه أحد المهندسين الكهربائيين، وقال له وهو في غاية الاستغراب؛ كيف يمكن لملك الموت أن يقبض أرواحا متعددة في أماكن متفرقة متباعدة في لحظة واحدة؟ فأجابه الشيخ في الحال: عندما يريد العامل في مركز توزيع الكهرباء أن يطفئ النور على عدة مناطق من المدينة، وفي لحظة واحدة، هل يستطيع ذلك؟ فقال المهندس: باستطاعته أن يفعل ذلك، فقال الشيخ رحمه الله، لم تستغرب فعل المخلوق، فكيف تستغرب من الخالق تعالت قدرته، أن يأمر بقبض الأرواح في شتى أنحاء العالم، فاقتنع الرجل بمثل هذا المثال الحي.

وقال له أحد المسؤولين: لماذا نرسل إليك ولا تأتينا؟ فقال له الشيخ على الفور، لقد رأيت من هو أعظم مني ومنكم يرسل إليكم خمس مرات في اليوم ولا تأتونه، فلماذا تطلبون مني الإتيان إليكم؟ أتريدني أن أكون من شرار العلماء؟ حيث قال الحسن البصري رضي الله عنه: شرار العلماء الواقفون عند باب الأمراء، وخيار الأمراء الواقفون بباب العلماء.

وسئل عن الربا هل هو حرام؟ فقال لسائله بغضب وانفعال، تضعون الجمر في أيديكم، وتسألونني إن كان يحرق أم لا؟ إنكم تسخرون مني بطرح هذا السؤال.

وسألته إحدى اللجان الرسمية التي أرسلها الرئيس بومدين في الستينيات، ما قولكم يا شيخ في تحديد النسل؟ فقال: أنا ليس لي قول، إنه قول هذا الكتاب وكان يحمل نسخة من القرآن الكريم، لقد قال في صريح الآية (يهب لمن يشاء إناثا، ويهب لمن يشاء ذكورا أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما)، هذه مشيئة الله وغير هذا هو تحد لهذه المشيئة، فاختاروا لأنفسكم ما يحلو …

وعندما زار الرئيس بومدين رحمه الله، مدينة الجلفة، كان الشيخ سي عطية ضمن الوفد الذي استقبل الرئيس، فلما جاء دوره ليصافحه، سأله الرئيس؛ هل أنت من أفتى بعدم جواز الاشتراكية، وتحديد النسل، والتسعير، فرد عليه الشيخ، وقال إنه ليس كلامي بل كلام الله عز وجل. فابتسم الرئيس بومدين. وعندما عاد إلى العاصمة، وفي لقاء مع العقيد أحمد بن الشريف عضو مجلس الثورة والقائد العام للدرك الوطني آنذاك قال له، مفتي مدينتكم شجاع وحازم، ويذكرني بعالم من تلمسان له نفس الصفات، فاعتنوا به.  

وفي حادثة أخرى، اعترض أحدهم في أن يكون الموتى يحسون بنا ولا نحس بهم، فقال له الشيخ؛ لقد أعطاكم الله مثالا من الواقع ومن صنع الإنسان، فالتلفزيون نحن كلنا في بيوتنا نشاهد مذيع الأخبار، ولكنه لا يشاهد أحدا منا.

وللتاريخ، فإن الشيخ سي عطية كان هو أول من أفتى بجواز نقل وزراعة الأعضاء البشرية من الميت إلى الحي، وحتى من الكافر إلى المسلم، وكان ذلك عندما زاره مجموعة الأطباء الأخصائيين والجراحين رفقة الشيخ العالم مفتي ولاية البليدة، الشيخ الزبير رحمه الله، وعلل فتواه بالكثير من الحجج الدامغة، ومنها أن الروح هي من تذهب إلى بارئها، أما الجسد فيفنى بعد الموت.  

ويروي تلميذه المقرب منه وصهره، الشيخ محمد بوخلخال، أن الشيخ سي عطية قد خط القرآن الكريم بخط يده، وخط بعض المتون منها: كتاب علوم إحياء الدين للإمام أبوحامد الغزالي، وكان عندما يخط متنا يحفظه مباشرة.

... يتبع