هؤلاء سلفكم

المساء المساء

قدَر الجزائر أن تتزاحم أيامها على مدار السنة، بالأحداث الجسام الحاملة للعبر والدروس والإلهام في مجال التضحية؛ من أجل الحرية والاستقلال والعيش بكرامة، وهي القيم الإنسانية الأساسية التي قامت من أجلها هيئات إقليمية وأممية للدفاع عنها.

ومن هذه الأحداث الخالدة ما يمكن أن نسميه بكل افتخار «مدرسة ١٩ ماي ١٩٥٦»، التي أحيتها الجزائر أمس؛ تخليدا للطلبة الجامعيين والثانويين، الذين أسعفهم الحظ في الاستمرار في الدراسة رغم سياسة التجهيل التي مارسها «الاستدمار» الفرنسي في حق الشعب الجزائري منذ دنّست أقدام جنوده أرض الجزائر الطاهرة في عام ١٨٣٠م، بهدف جعل الجزائر فرنسية قلبا وقالبا، جغرافية وروحا وثقافة ودينا.

إلا أن الاستعمار واجه ـ منذ اليوم الأول ـ مقاومات شرسة من أحرار الجزائر، وتوالت المقاومات الشعبية، حيث حققت الانتصارات، ولم تُثنها الانتكاسات بفعل فوارق القوة العسكرية عددا وعدّة؛ لأنهم أبطالها، كانوا في نهاية الأمر يواجهون الحلف الأطلسي بكامله.

وباندلاع ثورة التحرير المجيدة في الفاتح نوفمبر ١٩٥٤ شهدت مقاومة الاستعمار الفرنسي منعرجا حاسما، بدأ معه العد التنازلي السريع للاستقلال، الذي أعطاه الطلبة الجامعيون والثانويون في ١٩٥٦، وبالتحديد في ١٩ ماي، دفعة عسكرية ودبلوماسية قوية؛ حيث غادروا جماعيا مقاعد الدراسة للالتحاق بصفوف جيش التحرير الوطني، فكانوا خير خلَف لخير سلف من آبائهم وأجدادهم المقاومين للاحتلال، وأصبحوا هم بدورهم خير سلف لمن خلفهم من أجيال الاستقلال، وأروع أمثلة للتضحية في سبيل استقلال الجزائر ووحدة شعبها وترابها؛ إيمانا منهم بأن الموت في سبيل الوطن خيرٌ ألف مرة من العيش بلا وطن، فدخلوا بذلك التاريخ من بابه الواسع، ألا وهو التضحية بالنفس والنفيس من أجل أن يعيش أبناء وطنهم في كنف الحرية والعزة.

ليس ذلك فحسب، فقد صنعوا ـ إلى جانب أبناء شعبهم من فلاحين وحرفيين وتجار ومثقفين ورجال دين ـ للجزائر سمعة عالمية في مجال التحرر من الاستعمار البغيض بكل أبعاده المادية والمعنوية، فصارت بفضلهم الجزائر توصف بقِبلة الثوار، وصارت ثورة التحرير المجيدة تُنعت بأنها أعظم ثورة في التاريخ المعاصر.

وإذا كان هذا هو رصيد السلف الذي حقق للجزائر استقلالها وإعادة بنائها من جديد في جميع مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والعلمية، فإن دور الخلَف لا يقل أهمية من أجل الحفاظ على الجزائر مستقلة موحدة، ذات مكانة بين الأمم. وقد أدى هذا الخلَف دورا هاما خاصة أثناء المأساة الوطنية، كما عبّر عن ذلك رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة في رسالته بالمناسبة أمس؛ حيث اعتبر دور الشبيبة والجامعة «دليلا ملموسا» على هذا الحس الوطني المتوارَث عبر الأجيال، الذي بفضله تجسدت المصالحة الوطنية، وأصبحت نموذجا للعيش المشترك عند الشعوب. واستلهم منها العالم بمبادرة من الجزائر، «يوما عالميا للعيش معا في سلام»، المصادف لـ ١٦ ماي من كل سنة.

وحتى يضطلع طلبتنا اليوم بالأدوار المنوطة بهم في عالم لا مكان فيه للضعفاء علميا واقتصاديا وعسكريا، فقد أهاب بهم الرئيس بوتفليقة للعمل على تحقيق رسائل ثلاث؛ تقديس العمل في مقدمتها، واغتنام الظروف المواتية والإمكانيات الموفرة لاكتساب العلم والمعارف لمواكبة التطور السريع للتقدم العلمي في العالم والتفاعل معه، ثم العمل من أجل ضمان المكانة اللائقة بالجامعة الجزائرية بين جامعات العالم.

فهم وإن كانوا طلبة اليوم فهم إطارات الغد في مجالات اختصاصهم، وعليهم يعوّل ازدهار البلد ورفاهية شعبه وقيمة جامعاته العلمية.

فهؤلاء أنتم... وهؤلاء أسلافكم.