لنا ديننا.. ولهم قناعاتهم

العربي ونوغي العربي ونوغي

جنازة تليق بمقام الفقيد. قامة من أهرامات الثورة التي حررت الجزائريين، وحررت شعوبا كثيرة في مشارق الأرض ومغاربها، ودعها أمس ملايين الجزائريين إلى جنات عليين بإذن الله، وإلى جوار والدة وعائلة تنحدر من جذور لالا نسومر.

جنازة تابعها العالم بأسره، شيع فيها أحد كبار وزعماء الثورة وآخر "المتمردين" على التخلف والاستبداد والاستئصال والتطرف أيا كان شكله وأسلوبه.

الجزائريون – أكاد أقول كل الجزائريين – ساروا أمس خلف جنازة الزعيم آيت أحمد. لم يحملوه فقط على الأكتاف بل أيضا أنبتوه من جديد في قلوبهم المفعمة بالتقدير والعرفان للعظماء والزعماء من طينة "الدا – الحسين". ولولا الأجل المحتوم، والإيمان بقضاء الله وقدره لما دفنوه ولما شيعوه و"أستغفر الله" كدت أقول لخلدوه.

هكذا فعلوا مع بومدين. وهكذا فعلوا مع بوضياف. ومع بن بلة، ومع الشاذلي...

تناقلت، أمس، تلفزيونات العالم وإذاعاته وصحافاته، صور وأخبار جنازة الزعيم بالتقدير والإعجاب. وأدرك الذين راهنوا في عواصم التواطؤ، وعبر الأذناب والأبواق والأتباع في الداخل وفي الخارج، بأن الجزائريين، على اختلاف مواقفهم وخصوماتهم السياسية وكتاباتهم وجرائدهم. 

وعلى اختلاف مواقعهم ودرجاتهم في المسؤولية (في السلطة وفي الأحزاب) بأننا حين يجد الجد في الخطوب وفي الحسم، فإن الجزائر تجمعنا جميعا وفوقنا جميعا. وأننا على فقرنا وثرواتنا وعلى صراعاتنا واختلافاتنا لم نتنكر أبدا لعظمة وتضحية أبطالنا وزعمائنا، ولا نفرق بينهم أحدا في الوفاء والحب والتقدير والولاء.

 نحن لا نقدم الدروس للآخرين، ولكن نحن الجزائريين نتصرف بتلقائية وصفاء القلوب والسلوك ونبل الشعور ومن منبع صدق المواقف ومن أصالة انتمائنا ومبادئنا.

نحن نحمل دائما في قناعاتنا وفي مواقفنا وفي أعمالنا وأقوالنا رسالة الشهداء ونوفمبر، ونضالات الكاهنة وماسينيسا ولالا نسومر وكل مراحل المقاومة قبل أن يأتي الجهاد الأكبر مع الفقيد آيت أحمد ومجموعة 22 ومع كل شهدائنا وأبطالنا ومجاهدينا... نعم، نحمل هذه القناعة، من صغيرنا إلى كبيرنا مهما تبدلت ألواننا السياسية والاجتماعية والفكرية، وحتى الإيديولوجية، فإن الوطن يجمعنا دوما ودم الشهداء يروينا دائما. وراية الجزائر تربطنا إلى قسم بالجبال الشاهقات الشامخات...

لكننا أيضا نحن الجزائريين أوفياء لرسالة الرب العزيز الذي حملنا مسؤولية أننا شعب الله المختار، وخير أمة أخرجت للناس.

يقول بعض الذين في قلوبهم مرض السياسة. ويتعاطون السياسة والإعلام بمقدار "لا أريكم إلا ما أرى... "، إن أطرافا استغلت جنازة الفقيد سياسيا لتبييض صورتها؟ من باب مثل "الدقلة.. والعرجون".

نعم، لقد علقت للدا – الحسين عراجين ولكنها عراجين حب الشعب. ووفاء المجاهدين للمجاهدين.

عظمة الجنازة مستنبطة من عظمة من فقدنا. أفلا يستحق هذا الزعيم كل ما فعلنا؟. وهل بات التفاف الشعب حول أحد أبطال وزعماء ثورته مزعجا إلى حد ما تنكره بعض القنوات؟

لقد أنزل الرئيس بوتفليقة كل حكومته إلى مطار يحمل اسم زعيم آخر (هواري بومدين)، لاستقبال وتشييع أحد الثوار الأحرار. نحسب ذلك واجبا وفرض عين من مجاهد نحو مجاهد، بل تصرفا طبيعيا تلقائيا، وشعورا جزائريا محضا، لا ينتظر جزاء أو شكورا من أحد.

لقد كرس الرئيس بوتفليقة، من خلال إقامة هذه الجنازة العظيمة للزعيم آيت أحمد، في نفوس كل الجزائريين، سمو الدولة فوق الحسابات وفوق الاختلافات. وعدم التنكر للأبطال والزعماء والوفاء لتاريخنا المشرق بالنضالات والكفاح.

لقد أقام بوتفليقة من قبل جنازات بهذا الحجم والوقع، إذ فعل ذلك مع بن بلة والشاذلي ومساعدية وبومعزة... حيث ودع الجزائريون أبطالهم وزعماءهم منذ بومدين وبوضياف وعميرات وبن بلة والشاذلي، في مواكب تليق بمقام وتاريخ هؤلاء.

وحرص الرئيس على ذلك شخصيا، ليس فقط بصفته كرئيس للجمهورية ولكن أيضا كرفيق لهم ومجاهد من الرعيل الأول، أي من باب تكريس الاعتبار والتقدير لتضحياتهم، ومن منطلق تجذير الوفاء.

ألم يكن مصالي الحاج كفرا في نظر الكثيرين؟، ألم يكن بومعزة كفرا؟ وألم يكن عبان رمضان وكريم وشعباني وشولي وفرانتز فانون وماسينيسا وسانت أوغيستان كفرا، يحرم ذكرهم وتاريخهم في المناهج المدرسية؟... حتى جاء الذي أعاد الاعتبار لمن ظلموا من قبل.

هذه كلمة حق، وشهدنا بما رأينا. لسنا من أصحاب "العراجين". ولا ننتمي إلى ماسحي الأحذية أو المتزلفين للأكتاف وأوراق الأورو والدولار والريال والدينار...

لهم دينهم ولنا قناعاتنا التي تجري في عروقنا بحب الجزائر وبحب كل الجزائريين على اختلافهم.