السينما الجزائرية على عتبة التحوّل
من الركود إلى رؤية استراتيجية واعدة

- 178

تشهد الجزائر في الآونة الأخيرة تحوّلًا لافتًا في رؤيتها تجاه قطاع السينما، يعكس إرادة سياسية واضحة لإعادة بعث هذا المجال الحيوي بوصفه أداة ثقافية واقتصادية ذات بعد استراتيجي. فبعد سنوات من الركود والتشتّت، يبدو أنّ الجزائر تتهيّأ لمرحلة جديدة من البناء السينمائي المؤسساتي والإبداعي، مدفوعة بجملة من المؤشرات التي بدأت تتبلور منذ الخطاب الأخير لرئيس الجمهورية عبد المجيد تبون خلال الجلسات الوطنية للسينما مطلع 2025، وصولًا إلى تعيين مستشار خاص للسينما واستحداث آليات تنظيمية ومهرجانات جديدة.
خطاب الرئيس تبون: إعلان خارطة طريق
شكّل خطاب رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون في جانفي 2025، محطة مفصلية في مسار النهوض بقطاع السينما في الجزائر، حيث جاء محمّلًا برسائل قوية تعكس إرادة سياسية واضحة لإعادة الاعتبار لهذه الصناعة الثقافية التي طالما عانت من التهميش والتقلبات. في خطابه، لم يكتفِ الرئيس بالتشخيص، بل قدّم رؤية شاملة لإصلاح شامل ومتكامل يمسّ كلّ مفاصل المنظومة السينمائية، من التكوين والدعم إلى الإنتاج والتوزيع.
أبرز ما جاء في الخطاب هو التأكيد على ضرورة جعل السينما أداة للهوية الوطنية ورافعة اقتصادية في آنٍ واحد، مع التركيز على دعم الشباب المبدع وتوفير آليات إنتاج شفّافة، بعيدة عن البيروقراطية والمحسوبية. كما شدّد الرئيس تبون على أهمية إعادة فتح قاعات السينما وتوسيع شبكات التوزيع، إلى جانب خلق بيئة تشريعية وتنظيمية تواكب التطوّرات الرقمية وتسهّل الشراكات الدولية.
أهمية الخطاب تكمن كذلك في كونه وضع قطاع السينما ضمن أولويات السياسات الثقافية للدولة، وأعلن صراحة أنّ دعم الدولة سيكون مقرونًا بالنجاعة، والنتائج، والانفتاح على الفاعلين الميدانيين. وهو ما أعاد الثقة نسبيًا إلى المهنيين الذين طالبوا لسنوات بخارطة طريق واضحة، لا تعتمد فقط على المناسبات أو الاحتفالات الرسمية.
كما أكّد الرئيس على ضرورة استعادة السينما الجزائرية لمكانتها الثقافية والتاريخية، مشيرًا إلى دورها في بناء الوعي الوطني وتثبيت الهوية. والأهم، كان التزامه بإعادة تنظيم القطاع وفق رؤية مؤسّساتية حديثة، تتماشى مع تطوّرات الصناعة السينمائية عالميًا.
تعيين مستشار رئاسي للسينما: خطوة نحو الحوكمة الثقافية
يُعد تعيين مستشار خاص لدى رئاسة الجمهورية مكلف بالسينما، إذ تمّ تكليف الصحفي والناقد فيصل مطاوي بالمهمة منذ فيفري الماضي، مؤشرًّا جديًا على توجّه الدولة نحو معالجة معمّقة للملف السينمائي. المستشار، الذي أُوكلت له مهمة فتح ورشة وطنية شاملة لإعادة النظر في المنظومة السينمائية برمتها، يمثّل حلقة وصل بين الإرادة السياسية العليا والقطاع الميداني.
هذا التعيين يُفسّر على أنّه إدراك لأهمية التنسيق بين مختلف القطاعات لتحقيق نجاعة أكبر، وكذا كسر البيروقراطية التي كانت تقف عائقًا أمام مبادرات الإصلاح.
شهدت الأشهر الأخيرة تغييرات ملموسة على مستوى تنظيم المهرجانات السينمائية، سواء من حيث مضمونها أو استحداث فعاليات جديدة. فإلى جانب تطوير المهرجانات التقليدية مثل مهرجان وهران للفيلم العربي، برزت مبادرات لإطلاق مهرجانات متخصّصة تعكس تنوّع المشهد السينمائي، كالمهرجانات الموجّهة للأفلام الروائية القصيرة مثل مهرجان تيميمون الدولي أو سينما الشباب، في صورة مهرجان إمدغاسن.وهذا التوجّه لا يُقرأ فقط كخطوة لتنشيط الحركة السينمائية، بل أيضًا كوسيلة لتوزيع النشاط الثقافي جغرافيًا وتجاوز المركزية، ما يسمح بتوسيع القاعدة الجماهيرية واحتضان المواهب المحلية في مختلف الولايات.
تحوّلات مؤسّساتية: بين إرادة الإصلاح وشروط النجاح
يُعدّ حلّ المركز الوطني للصناعة السينماتوغرافية، حديثا، خطوة تنظيمية مهمّة في مسار إصلاح القطاع السينمائي في الجزائر، إذ يهدف هذا الإجراء إلى توحيد الجهود والوسائل تحت هيئة واحدة أكثر فاعلية هي "المركز الجزائري لتطوير السينما". ويسمح هذا التحويل بإعادة هيكلة الإمكانيات البشرية والمادية والمالية في إطار مؤسّسي جديد، يركّز على تطوير الصناعة السينمائية بدلًا من الاكتفاء بإدارتها، مع الحفاظ على حقوق وواجبات المستخدمين، وفق ما ينصّ عليه المرسوم الرئاسي.
من جهة أخرى، يبرز هذا القرار إرادة الدولة في تحقيق نجاعة أكبر في تسيير الموارد وتفعيل دور السينما كقطاع ثقافي واقتصادي استراتيجي، من خلال تمكين المركز الجديد من مواصلة المهام السابقة لكن وفق رؤية أكثر حداثة واحترافية. كما أنّ إعداد جرد شامل للأملاك والحقوق والواجبات ونقلها بطريقة قانونية ومنظمة، يضمن الشفافية والاستمرارية، ويُمهّد لإقلاع حقيقي لقطاع السينما في الجزائر تحت إشراف هيئة واحدة أكثر تخصّصًا ووضوحًا في المهام.
هذا القرار يُعتبر محطة جديدة في مسار إعادة هيكلة القطاع السينمائي، ويعكس إرادة سياسية حقيقية لإعادة إحياء هذا المجال الثقافي الحيوي، الذي لطالما عانى من التهميش والارتجال.
إذا ما استمرت هذه الديناميكية بنفس الجدية، فإنّ السينما الجزائرية مرشّحة لأن تعود بقوّة إلى خريطة السينما العربية والإفريقية، من خلال تطوير آليات الإنتاج والدعم، وتوسيع نطاق التكوين المهني، والانفتاح على الشراكات الدولية. غير أنّ هذا الطموح، مهما كانت نُبل أهدافه، يبقى مرهونًا بمدى إشراك الفاعلين الحقيقيين في الميدان — من مخرجين ومنتجين ونقّاد — في صياغة السياسات السينمائية، بدل أن تظل هذه الأخيرة حبيسة المكاتب الإدارية والقرارات الفوقية.
كما أنّ نجاح أيّ مشروع لتطوير السينما يتطلّب ترسيخ حوكمة شفّافة تتجاوز منطق "المناسباتية" الذي طبع عديد المبادرات السابقة، لصالح رؤية متوسّطة وطويلة الأمد تُبنى على أسس مهنية واضحة. ومن الضروري أن تشمل ورشات الإصلاح عناصر جوهرية أخرى، مثل إعادة فتح قاعات السينما المغلقة وبناء أخرى بمعايير حديثة، وتحسين شبكة توزيع الأفلام الجزائرية داخليًا وخارجيًا، إضافة إلى إجراء دراسات استبيانية لفهم أذواق الجمهور المحلي والعمل على إنتاج محتوى يتماشى مع تطلّعاته.الرهان ليس فقط على الإنتاج، بل على بناء منظومة متكاملة لصناعة سينمائية وطنية متينة، تُزاوج بين البُعد الثقافي والبعد الاقتصادي، وتمنح للجزائر المكانة التي تستحقها على الساحة السينمائية الدولية.
20 إجراء عملي في صلب خطة الإقلاع السينمائي
أطلقت وزارة الثقافة والفنون، يوم الثلاثاء 1 جويلية الجاري، نتائج الدراسة العملياتية لإنعاش الصناعة السينمائية، ويمثّل إطلاق هذه الدراسة، نقطة تحوّل حاسمة نحو بناء صناعة سينمائية جزائرية متكاملة وتنافسية، تستثمر في الرصيد الثقافي والبشري للبلاد، وتنفتح على الأسواق الدولية، بما يجعل من السينما ليس فقط أداة تعبير فني، بل رافعة اقتصادية واجتماعية واعدة.
هذه الدراسة، التي جاءت تتويجًا لتوصيات الجلسات الوطنية للسينما، تهدف إلى وضع خارطة طريق واقعية وميدانية، قادرة على نقل القطاع من مرحلة الركود إلى ديناميكية تطوير فعلي. وقد أكّد الوزير في كلمته أنّ الوثيقة تتضمّن 20 إجراءً ملموسًا من شأنها أن تُحدث تحوّلًا جذريًا في منظومة السينما الجزائرية، من خلال التركيز على المجالات ذات الأولوية.
ومن بين هذه الإجراءات المنتظرة، إصلاح منظومة الحوكمة عبر إنشاء هيئات تنسيقية دائمة بين الوزارات المعنية، وتحديث الأطر التنظيمية لتفادي تداخل الصلاحيات والازدواجية، إعادة هيكلة دعم الدولة: باعتماد مقاييس شفافة وعادلة لدعم المشاريع السينمائية، قائمة على معايير الجودة والتأثير الثقافي، تفعيل الشراكات الدولية: عبر تسهيل الإنتاج السينمائي المشترك، وتوقيع اتفاقيات تعاون مع مراكز ومؤسّسات دولية، الاستثمار في التكوين المتخصّص من خلال إطلاق مدارس ومعاهد عليا للسينما، وبرامج تدريب بالشراكة مع خبراء أجانب وجامعات دولية، إدماج الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيات الحديثة: لتطوير أدوات الكتابة، والمونتاج، والترجمة، والتوزيع الرقمي.
إلى جانب ما ذكر سابقا، العمل على توسيع شبكة التوزيع داخليًا وخارجيًا: عبر إنشاء منصّات رقمية وطنية، وتسهيل مشاركة الأفلام الجزائرية في المهرجانات والأسواق الدولية، تأهيل قاعات السينما وإعادة فتح المغلقة منها، وفق معايير حديثة، وربطها بخطط الجذب السياحي والثقافي، تحفيز الاستثمار الخاص، من خلال حوافز جبائية وتشجيع البنوك على تمويل المشاريع السينمائية كمجال واعد، إطلاق صندوق وطني لدعم الإنتاج السينمائي: يدار بشفافية ويكون مفتوحًا أمام مساهمات من الدولة والقطاع الخاص، وتنظيم المهرجانات بشكل احترافي وربطها باستراتيجيات الترويج الدولي، مع تقويم مستمر لأثرها الاقتصادي والثقافي.
كما تشمل بقية الإجراءات وضع آلية دائمة لرصد وتقييم القطاع، إجراء دراسات دورية عن ذوق الجمهور، وتحديث النصوص القانونية المتعلّقة بحقوق التأليف والملكية الفكرية في المجال السمعي البصري.