الذكـرى 71 لاندلاع الثورة المجيدة

ملف الذاكرة لا يسقط بالتقادم ولا يقبل التنازل والمساومة

ملف الذاكرة لا يسقط بالتقادم ولا يقبل التنازل والمساومة
  • 212
أسماء منور أسماء منور

تحل اليوم الذكرى 71 لاندلاع ثورة نوفمبر المجيدة، الذي وجهت فيه جبهة التحرير الوطني نداء إلى أبناء الجزائر، إيذانا بانطلاق الحرب على المحتل الغاشم. حيث أطلق المجاهدون الأحرار أولى رصاصات الكفاح المسلح من جبال الأوراس الشامخة، لاسترجاع سيادة الجزائر، التي عقدت العزم على الخلاص من هيمنة الاستعمار.

تأتي احتفالات الثورة المجيدة 71 في سياق الجزائر الجديدة، التي عملت على توثيق الصلة بين جيل حرب التحرير وجيل ما بعد الاستقلال. وجعلت المواطن في صلب اهتمامها، وبيان أول نوفمبر مرجعا لمواصلة صون كرامة المواطن، والحفاظ على اجتماعية الدولة. كما منحت الأولوية للحفاظ على ملف الذاكرة؛ باعتباره جزءا لا يتجرأ من تاريخ الجزائر، الذي حاولت فرنسا الاستعمارية طمسه 132 سنة بانتهاج أبشع طرق التعذيب والتقتيل ضد شعب قرر أن يقول كلمته الأخيرة. وتخرج رصاصة أول نوفمبر من رحم معاناته، بل ضحى بالنفس والنفيس في سبيل أن تكون الجزائر حرة مستقلة.

ولأن "الجزائر لا تبيع ماضيها؛ فمن باع ماضيه لا يملك مستقبلا"، حظي ملف الذاكرة الوطنية باهتمام بالغ من السلطات العليا للبلاد؛ حيث عكف رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون منذ اعتلائه سدة الحكم، على الدفاع عن حق الجزائر في الاعتراف الفرنسي الكامل، بمسؤوليته عن جرائمه ضد الشعب الجزائري.

ملف الذاكرة لا يسقط بالتقادم

وشدد الرئيس تبون بخصوص ملف الذاكرة أكثر من مرة، على ضرورة اتخاذ الطرف الفرنسي خطوات ملموسة لمعالجة آثار التجارب النووية التي قام بها الاستعمار في صحراء الجزائر، والتحلي بالمصداقية كشرط أساسي لاستكمال الإجراءات المتعلقة بهذا الملف الحساس؛ لإعادة بناء الثقة بين البلدين. ورغم أن المواطن هو المعادلة الحقيقية في مسيرة البناء والتنمية، إلا أن الجزائر الجديدة تعمل على الحفاظ على تاريخها المجيد، من خلال العمل بالشراكة بين مؤرخين من الجانبين الجزائري والفرنسي، لاستعادة الأرشيف والوثائق.

وبالمقابل، يعرف الوضع السياسي في فرنسا تباينا حادا حول كيفية التعامل مع ملف الذاكرة. ففي الوقت الذي دعا التيار اليساري إلى الاعتذار من الجزائر وطي الملف بشكل نهائي لفتح صفحة جديدة بين البلدين، التيارُ اليميني المتطرف لايزال يرفض بشدة هذا المقترح، بل ذهب إلى أبعد من ذلك؛ من خلال محاولة تمجيد جرائم فرنسا الاستعمارية، التي تزعم أنها دولة حقوق الإنسان. ولأن طلب الاعتذار ليس رمزيا للجزائر الحرة المستقلة بل اعتراف يؤسس لعهد جديد في العلاقات بين البلدين، عبّر الرئيس عبد المجيد تبون مرارا، عن هذا الموقف بأن المصالحة الحقيقية لا بد أن تمر عبر الحقيقة الكاملة.

أسقف الجزائر يدعو للاعتراف الكامل بجرائم فرنسا

ولعل تصريحات أسقف الجزائر الكاردينال جون بول فيسكو الأخيرة، كان لها بعدان؛ سياسي وأخلاقي كبيران، عندما قال مؤخرا بشأن مسألة الاستعمار، إن هناك جرحا عميقا في الذاكرة مرتبطا بالتاريخ الفرنسي في الجزائر. ففي الوقت الذي ترفض فرنسا الاعتراف بجرائمها في الجزائر، جاء رجل الكنيسة فرانكو- جزائري الذي يحظى باهتمام خاص في فرنسا، ليؤكد أن كل استعمار يُعد شكلا من أشكال العنف، إلا أنه لم يحظ بالاعتراف الكامل.

وأضاف أن الصمت من شأنه الإبقاء على التوترات الحالية بين الجزائر وفرنسا. وشدد على ضرورة السعي إلى مصالحة الذاكرة ليس لإلقاء اللوم، لتحرير الأجيال القادمة، ليكسر الكاردينال حاجز الصمت، ويعيد تشكيل النقاش حول ملف الذاكرة من زاوية أخلاقية، ويذكّر باريس بضرورة تبنّي رؤية تفتح الباب لمعالجته بكل شجاعة.

الرقمنة للحفاظ على الهوية الوطنية

ولأن التكنولوجيات الحديثة تحولت إلى سلاح العصر لتمس كل الميادين، قرر رئيس الجمهورية رقمنة الأرشيف الوطني؛ باعتبار خطوة مهمة في مسار حفظ الذاكرة الوطنية، وصونها، والحفاظ على تضحيات الأجداد الجسام، في سبيل أن تصل رسالتهم للأجيال الصاعدة.

وتُعد عملية تحويل الذاكرة الوطنية إلى أصول رقمية، مشروعا سياديا للجزائر، وضعته في صلب مقوماتها من أجل حماية الإرث التاريخي من التلف المادي، أو محاولات التحريف، التي تسعى فرنسا، بشكل يائس، إلى القيام بها؛ من أجل طمس جرائمها النكراء في حق الشعب الجزائري. وتجسيدا للإرادة السياسية الرامية إلى الحفاظ على تاريخ الجزائر، تم إطلاق العديد من المنصات والتطبيقات، الهادفة إلى توثيق وحماية التاريخ الوطني بكافة أشكاله، من بينها منصة المواقع التاريخية، التي تهدف إلى توثيق المعالم المرتبطة بفترة المقاومة ضد الاستعمار والثورة التحريرية المجيدة. كما توفر خرائط تفاعلية، تتيح للمستخدمين استكشاف هذه المواقع، وفهم سياقها التاريخي.

وتم إطلاق الخطة الوطنية للرقمنة (شهر التراث 2025)؛ حيث تم الإعلان عن إدراج 12 مشروعا تستهدف رقمنة المتاحف والمخطوطات، والمعالم الأثرية الكبرى في مناطق ذات رمزية تاريخية عالية. وبالإضافة إلى ذلك، أطلقت وزارة المجاهدين تطبيق "تاريخ الجزائر 1830- 1962"، الذي يتيح إمكانية تصفح المحطات التاريخية الكبرى للجزائر بأسلوب تفاعلي وجذاب؛ ما يخدم الذاكرة الجماعية.


قال إن المستعمر الفرنسي يحاول التنصل من جرائمه.. المؤرخ بلخوجة لـ "المساء":

الجزائر الجديدة تتمسك بمبدأ الندية في التعامل مع فرنسا

يرى المؤرخ والباحث في التاريخ عمار بلخوجة، أن ملف الذاكرة بين الجزائر وفرنسا، يشهد توترا بين البلدين؛ بسبب الضغوطات التي يمارسها اليمين الفرنسي المتطرف، مشيرا الى أن النظام الفرنسي لا يتحلى بالشجاعة لمواجهة التاريخ.

وقال بلخوجة في تصريح لـ"المساء" إن هناك صفحات سوداء في ملف الذاكرة، تتضمن جرائم نكراء يرفض الطرف الفرنسي الاعتراف بها. وفي ظل الفوضى السياسية التي تشهدها باريس في الآونة الأخيرة، عرفت أشغال اللجنة الخماسية المشتركة بين الجزائر وفرنسا المكلفة بملف الذاكرة، تأخرا كبيرا.

وأضاف أن الجزائر الجديدة لم تتوانَ في المطالبة بحقها في الاعتذار، خاصة أن فرنسا لا تملك القوة للاعتراف بما اقترفت من جرائم في حق الجزائريين، مشيرا الى أن الرئيس تبون أكثر تمسُّكا بمبدأ الندية في التعامل مع فرنسا لبناء علاقات شراكة لا علاقات إملاء.ويشير بلخوجة الى أن فرنسا الاستعمارية تُعد مجرمة حرب بامتياز، تحاول إخفاء الحقائق التاريخية، وإعطاء صورة بأن الاحتلال أمر إيجابي من أجل التستر على ما ارتكبته من تعذيب، وقتل، واعتماد سياسة الأرض المحروقة؛ في محاولة يائسة منها لطمس آثارها بشتى الطرق.

وأبرز الباحث في التاريخ أن مواقف الجزائر ثابتة، وغير قابلة للمساومة عندما يتعلق الأمر بتاريخ الأمة، الذي تعمل على الحفاظ عليه، ليتم توارثه بين الأجيال، مع التصدي لكل محاولات التحريف، التي تسعى إليها بعض الأطراف الفرنسية؛ للتنصل من المسؤولية التاريخية. وأكد أن "ثورة نوفمبر التي أُلقيت إلى الشارع واحتضنها الشعب "، كما قال الشهيد العربي مهيدي، نتج عنها انتزاع للحرية في جويلية 1962، لتصنع مجدا خالدا، ويصبح ذكرى اندلاعها ميلادا متجددا للأمة، وذاكرتها. وذكر المؤرخ أن اللجنة الخماسية ليست مجرد إطار للتشاور، بل الخيط الذي يربط الماضي بالحاضر؛ من أجل حماية التاريخ من التزييف، وتقديم الحقيقة كما هي للأجيال القادمة؛ حفاظا على رسالة الشهداء، وصون ذاكرة الوطن.