تتّجه لتطوير ثرواتها المتنوعة ودعم الاستثمارات المنتجة والصادرات خارج المحروقات
الجزائر بخطى ثابتة نحو مصاف الدول الناشئة
- 444
ح . ح
استطاع الاقتصاد الجزائري خلال الأشهر الأولى من السنة الجارية، الحفاظ على مسار نمو قوي بالرغم من الأوضاع العالمية الصعبة، وانعكاساتها على الأسواق والتجارة. حيث أكدت المؤسسات المالية الدولية أن الاقتصاد الوطني تمكن من مواكبة المتغيرات، ليصنَّف ضمن أقوى الاقتصادات عربيّا وإفريقيّا.
ساهمت عدة عوامل في تمكين الاقتصاد الجزائري من الصمود في وجه العواصف التي جرتها أزمات جيوسياسية واقتصادية وصحية وحتى مناخية؛ ما جعل رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، يؤكد على أن اقتصاد البلاد "يسير في الطريق الصحيح" خلال لقاء جمعه منذ أسابيع قليلة، بمتعاملين اقتصاديين.
ويرى الرئيس تبون أن مثل هكذا نتائج إيجابية، يعود الى مسار إصلاح الاقتصاد الجزائري وهيكلته الذي باشره، والذي يقوم، خصوصا، على إنشاء نسيج واسع من المؤسسات المتوسطة والناشئة؛ كحافز لتطوير الصادرات خارج قطاع المحروقات. واحتل الاقتصاد الجزائري المرتبة الثالثة من حيث أقوى الاقتصادات في إفريقيا لعام 2025، فيما حل رابعا عربيّا، وثانيا على مستوى منطقة شمال إفريقيا، بحسب تقرير آفاق الاقتصاد العالمي لصندوق النقد الدولي.
وسجلت الجزائر معدل نمو بلغ 4.5 % في الربع الأول من 2025، مدفوعا بانتعاش لافت للقطاعات خارج المحروقات، التي قفزت بنسبة 5,7 % مقارنة بـ4,3 % في 2024، حسب أرقام الديوان الوطني للإحصائيات، التي أشارت إلى نمو قطاع الخدمات بنسبة 5,3 %، مدعوما بـالتجارة: +8,9%، والنقل والاتصالات: +8,3%، والفنادق والمطاعم: +7,1%، فيما شهد قطاع البناء زيادة في قيمته المضافة بنسبة 3,1%. ومقابل ذلك أكد ديوان الإحصائيات تراجع معدلات التضخم بصفة ملحوظة، منتقلة من 9 بالمائة إلى أقل من 4 بالمائة خلال العام الجاري.
وواصل قطاع الطاقة، من جانبه، بالرغم من تراجع أسعار النفط، لعب أدوار رئيسية في الاقتصاد الوطني. حيث يشهد حركية منقطعة النظير تتجه نحو ترسيخ مبدأ الانتقال الطاقوي، والحفاظ على مكانة الجزائر كفاعل جهوي مهم في المعادلة الطاقوية العالمية، عبر إحداث توازن بين تثمين ثرواته الكبيرة من الغاز الطبيعي خصوصا، وكذا النفط؛ حيث شهدت هذه السنة عودة لأكبر الشركات النفطية العالمية للاستثمار بالجزائر، وهو ما سمح بإحداث طفرة هامة في الشراكات الاستراتيجية المبرمة. وهي تطورات تبشر بتوسيع دائرة النفوذ الجزائري في مجالي النفط والغاز سواء عبر الصادرات المباشرة إلى القارة الإفريقية، أو من خلال دخول أسواق جديدة في أوروبا وآسيا، بما يعزز مداخيل البلاد من العملة الأجنبية.
وشهدت هذه السنة نجاح أول مناقصة دولية لاستكشاف وإنتاج المحروقات "ألجيريا بيد راوند 2024"، التي حضرت بموجب قانون المحروقات الجديد؛ حيث سمحت بتوقيع 5 عقود تطوير لتغطية احتياطيات ضخمة تقدر بنحو 700 مليار متر مكعب من الغاز، و560 مليون برميل من النفط الخام، باستثمارات تفوق 600 مليون دولار، فيما يُتوقع أن تطلَق المناقصة الثانية لسنة 2025، في مطلع 2026، حسبما أعلن وزير الدولة وزير المحروقات والمناجم، محمد عرقاب، مؤخرا.
وعلاوة على دورها الريادي في الغاز والنفط، تطمح الجزائر إلى التموقع كفاعل عالمي وجهوي في مجال المناجم. وهو ما تم تجسيده من خلال قانون المناجم الجديد، الذي دخل حيز التنفيذ خلال العام الجاري، والذي يعد بجلب استثمارات أجنبية أكبر من خلال إضفاء ليونة أكبر في شروط وظروف العمل في هذا المجال، تزامنا والاهتمام المتنامي من قبل القوى الدولية باستغلال المعادن التي تزخر بلادنا بتشكيلة متنوعة منها، تمكنها من تموين السوق العالمية بحاجياتها من عدة مواد، حتى النادرة منها.
وتراهن الجزائر على تطوير مجموعة من المعادن الحيوية، مثل: الزنك، والفوسفات، والحديد، والألماس، واليورانيوم والنحاس، إلى جانب العديد من المعادن الأرضية النادرة؛ لدفع عجلة التنمية الاقتصادية. وهو ما تم التباحث بشأنه في الأيام الأخيرة مع سفير الاتحاد الأوروبي بالجزائر، الذي أكد الاهتمام بعقد شراكات متبادلة المنفعة بين الشركات الجزائرية ونظيراتها الأوروبية؛ للاستثمار في القطاع المنجمي.
حيث تم التشديد خلال اللقاء الذي جمعه بوزير الدولة محمد عرقاب، على ضرورة التركيز على نقل المعرفة، والتكوين، والتقنيات الحديثة، خاصة في مجالات البحث والاستكشاف والتحويل، وتثمين الثروات المنجمية؛ على غرار العناصر الأرضية النادرة، والمعادن الاستراتيجية في الجزائر ضمن إطار القانون الجديد للمناجم، الذي يمنح تسهيلات مهمة، ويشجع على توطين الصناعة المنجمية بالجزائر. وبالموازاة مع ذلك، تتجه مجهودات الدولة الاقتصادية أكثر فأكثر نحو تطوير الطاقات المتجددة التي تمثل المستقبل بالنسبة لبلد قارة مثل الجزائر، التي يُجمع الكل على أنها تتوفر على أكبر القدرات من حيث الطاقة الشمسية، وحتى طاقة الرياح.
وتُظهر البيانات أن الجزائر نجحت في توقيع عدد من أكبر صفقات الطاقة المتجددة في الأشهر الماضية؛ نظرا لحجم الاستثمارات المخصصة لها، وطبيعة الشركاء الأجانب المنخرطين فيها. حيث تشمل تصنيع الألواح الشمسية، وتطوير محطات ضخمة للطاقة الكهروضوئية، وبناء منظومات لتخزين الكهرباء بالبطاريات، ومبادرات أوروبية لتمويل مشاريع لإنتاج وتسويق الهيدروجين الأخضر مع شركاء أجانب وعرب، لا سيما من الصين، وتركيا وأوروبا.
وعلى صعيد آخر، تواصل الحكومة بناء أسس اقتصاد متنوع، يبتعد أكثر فأكثر عن الاعتماد على مداخيل المحروقات، وهو ما بدأت ثماره الأولى تظهر بفضل النمو المتزايد، والتي باتت تشجع قطاعات مثل الفلاحة والخدمات والبناء عاما بعد آخر. وحتى إن كان الإنفاق العمومي الموجه إلى مشاريع تنموية، وصل إلى مستويات غير مسبوقة، فإن أرقام الوكالة الجزائرية لترقية الاستثمار تؤكد وجود عشرات الآلاف من المشاريع الاستثمارية لخواص وطنيين وأجانب، مطروحة على طاولتها.
ويتم العمل في هذا السياق، على وضع أساس لصناعات استراتيجية، على رأسها الصناعة الميكانيكية، والصناعات الغذائية، والصناعة الصيدلانية، والصناعات البتروكيماوية التي تراهن عليها البلاد من أجل استبدال الواردات، وتوفير منتجات محلية ذات نوعية، وتستجيب للمعايير الدولية التي تسمح لها باقتحام الأسواق الخارجية.
وعلى سبيل المثال، قادت الجزائر مبيعات شركة السيارات متعددة الجنسيات ستيلانتس، حسبما كشفت نتائج أعمال الشركة خلال الربع الثالث من 2025. وتخطّى إنتاج مصنع شركة فيات في طفراوي بولاية وهران، حاجز 50 ألف سيارة في سبتمبر الماضي مقابل 17 ألفا خلال عام 2024 بأكمله. وهناك خطط لرفع إنتاج المصنع لإنتاج 90 ألف سيارة من 60 ألفا متوقعة في 2025، مع إنتاج أول سيارة "غراند باندا" داخل مصنع وهران.
ولدعم هذه التطورات الإيجابية، أعلنت وزارة الصناعة عن تسهيلات جديدة للمستثمرين، من بينها إنشاء المكتب الأخضر للتنمية على مستواها، لمرافقة المشاريع الاستثمارية الصناعية المهيكلة. حيث يسمح بالمعالجة السريعة، والمرافقة الإدارية الآنية للمشاريع. كما تم إطلاق شبكة وطنية لقطع غيار المركبات والسيارات لتطوير الصناعة الميكانيكية، ورفع نسب الإدماج في مشاريع تركيب السيارات والمركبات، وتنصيب لجنتين لمتابعة وتأطير نشاط تصنيع قطع غيار المركبات.
وعلى مستوى خارجي، عززت الجزائر دبلوماسيتها الاقتصادية باحتضانها حدثين جهويين بارزين؛ الأول يتعلق بالاجتماعات السنوية للبنك الإسلامي للتنمية في شهر ماي الماضي، الذي شهد حضورا بارزا لمسؤولين وشخصيات مالية من كافة بقاع العالم، وسمح بعقد اتفاقيات تعاون هامة. وتم بالمناسبة إطلاق إطار استراتيجي تحويلي 2026 - 2035، يرسم مسارا جريئا للعقد المقبل من التعاون الإنمائي بين البلدان الأعضاء السبعة والخمسين، تحت شعار "تنويع الاقتصاد إثراء للحياة"، والذي وُصف بـ«العلامة الفارقة" في مسيرة هذه المؤسسة؛ ما يؤكد نجاح الحدث الذي احتضنته بلادنا.
ويتعلق الحدث الاقتصادي الثاني بمعرض التجارة البينية الإفريقي، الذي حطمت نسخته الجزائرية كل الأرقام؛ حيث تُوجت الطبعة الرابعة منه بتوقيع اتفاقيات تجاوزت قيمتها 3ر48 مليار دولار، كانت حصة الجزائر منها 11,4 مليار دولار؛ ما يمثل 23,6 بالمائة من إجمالي الصفقات الموقَّعة. وسجل عدد المشترين مستوى قياسيا مقارنة بالطبعات السابقة؛ حيث بلغ 987 مشترٍ، في حين قُدر الهدف الذي سطره المنظمون بـ 750 مشتر. وبلغ العدد النهائي للعارضين 2148 عارض، يتوزعون بين 1923 عارض شاركوا حضوريا، و225 عارض شاركوا افتراضيا.
وعرفت طبعة الجزائر، كذلك، مشاركة 49 دولة من إفريقيا، و21 دولة خارجها بأجنحة خاصة بها. وبلغ العدد الفعلي للدول المشاركة من خلال وفود لها، 132 دولة، فيما تم تسجيل 35 ألف زائر. وتميزت طبعة الجزائر بمشاركة قياسية، أيضا، من طرف قادة الدول؛ حيث بلغ عددهم 20 (14 رئيس دولة وحكومة، وستة ممثلين عنهم) مقارنة بـ8 في الطبعة السابقة.
وستعمل الجزائر التي ستحتضن قبل نهاية العام الجاري منتدى المؤسسات الناشئة الإفريقية، على توجيه الأنظار نحو شباب القارة الذين يمثلون أغلبية سكانها؛ من أجل تحفيزهم وتشجيعهم على تشكيل القوة المستقبلية للقارة، عبر تحسيسهم بأهمية توظيف قدراتهم الابتكارية والإبداعية لخدمة قارتهم بدل تقديمها على طبق من ذهب لبلدان أخرى. فالأكيد أن ثروة الموارد البشرية لا تقدَّر بثمن، ولا يمكن تعويضها، وهو ما يمثل التحدي الأكبر للقارة الإفريقية، وللجزائر.