معلم تاريخي يغوص بنا في أغوار التاريخ

مركز "غوتتيه" لتعذيب المجاهدين.. يشهد على فظاعة الاستعمار

مركز "غوتتيه" لتعذيب المجاهدين.. يشهد على فظاعة الاستعمار
  • القراءات: 3948
حنان/ س حنان/ س
من المعالم التاريخية الشاهدة على فظاعة المحتل الفرنسي وبشاعة صور تعذيبه لمجاهدي الثورة التحريرية، مركز غوتتيه المتواجد ببلدية سوق الأحد بولاية بومرداس، هذا المعلم التاريخي المُهمل تماما من طرف السلطات المحلية، يعكس بشاعة الاستعمار ومحاولاته الفاشلة في وأد الثورة التحريرية.. جدرانه ما تزال شاهدة على أبشع مشاهد التعذيب التي مورست ضد المجاهدين والمجاهدات في أوج سنوات التحرير، وذنبهم أنهم أرادوا العيش في بلد مستقل.
"المساء" زارت المركز وحاورت مجاهدين عذّبوا بالمركز ومازلت ذاكرتهم تحتفظ بأبشع صور التعذيب التي مورست ضدهم، ومنهم المجاهد ذباح علي بن محمد (85 سنة)، وشارف رابح بن علي (71 سنة)، تحدثا مطولا عن القليل مما رأياه وسمعاه في المركز.

فصول طويلة وفظيعة للتعذيب
غوتتيه الذي أخذ تسميته من اسم المعمّر الفرنسي الذي كان المركز يقع على أرضه، وهي الأرض الشاسعة التي غرست بها كروم العنب وشيدت على أطرافها مصانع لصناعة الخمور، بعضها كانت تحوي مراكز أخرى للتعذيب، حيث يوضع مجاهدون وغيرهم من المواطنين يشتبه جنود الاحتلال في مساعدتهم للجبهة، في دلاء ضخمة بالطوابق ما تحت الأرضية للمصنع ثم ترمى فوقهم مئات اللترات من الخمور إلى ان يختنقوا ـ يقول المجاهد شارف ـ وهو يروي لنا صورا من التعذيب التي سمع عنها أثناء سنوات التحرير، ويوضح المجاهد الذي التحق بصفوف النضال بمنطقة خليفة-جراح (بلدية عمال حاليا) ما بين 1955-1956، وهو يقودنا من غرفة إلى أخرى بالمركز يستحضر صور التعذيب الذي تعرض له والعشرات، بل المئات من المجاهدين والفدائيين والمسبلين الذين ألقي عليهم القبض، وكذلك مواطنين وسكان المداشر المجاورة نساء ورجالا يتم الزجّ بهم في غرف ضيقة للغاية، ثم تبدأ فصول التعذيب: "كما ترون فإن الغرفة الواحدة ضيّقة للغاية يوضع بها من 13 إلى 20 شخصا ومن الجنسين، يتم تكديسنا داخلها ونجبر على الوقوف ساعات طوالا، وأحيانا أياما متتالية، وعند المساء ترمى علينا المياه القذرة المختلطة بفضلات البشر والحيوان والصابون ثم يغلق المنفذ الوحيد للتهوية بالغرفة وهو عبارة عن نافذة حديدية توجد عند الأقدام ومنها يتم جر أحدنا نحو التعذيب"، يقول المجاهد شارف، في الوقت الذي يضيف فيه المجاهد ذباح علي قائلا: "لما يتم جر أحدهم في الصباح يؤخذ من رجله ويسحب من النافذة الحديدية الضيقة جدا، وكثيرا ما كنا نسمع اصطكاك أسنانهم أرضا بفعل شدة الهمجية"، وبكثير من التأثر يواصل"، أما فصول التعذيب فتختلف ما بين استعمال الماء والكهرباء إلى التمزيق بسبب الكلاّب.. أما النساء فتعذيبهن كان مغايرا وشديدا لا يتصوره عقل بشر"، يسكت المجاهد ولا يذكر أي تفاصيل في هذه النقطة بالذات، ليضيف المجاهد شارف بقوله "الذي دخل هذا المركز وخرج منه حيا فقد كُتب له عمر طويل".
والمركز يحتوي على 24 غرفة للتعذيب حسب معاينة "المساء" يتم إدخال المجاهدين من أعلى كل غرفة ويسحبون من أسفلها، وتوجد الغرف بطرفي المركز وبمدخله كان يوجد مكتب الضابط القائم على إدارته، ومكاتب أخرى يسحب إليها المجاهدون للتعذيب غير بعيدة عن غرف السجن حتى يسمع السجناء صراخ المعذبين.
كان المجاهدان يسترجعان المشاهد الفظيعة التي عايشاها في المركز، ثم يسكتان لبرهة ثم يتابعان بصوت متحشرج لفظاعة ما تحويه ذاكرتهم من تعذيب مورس عليهم من طرف أبشع استعمار عرفه التاريخ الحديث. دخلا برفقتنا لكل غرفة من غرف المركز وكانا يجولان ببصرهما في الإرجاء وكأنهما ينظران لسنوات شبابهما اليافع وهما بداخل غرفة من تلك الغرف، أو مازالا يسمعان صراخ التعذيب القادم من غرفة التعذيب بأحد أطراف المركز. كما يذكران تفاصيل التحاق الكثير من الشباب بصفوف جبهة التحرير، ففي ذلك الوقت كان الشباب اليافع في الـ14 والـ17 سنة يلتحقون بجيش التحرير بالكثير من الفخر والاعتزاز، والقرى المجاورة لمركز غوتتيه على نحو اقروشن وبني عراب وبوظهر وايت ثولمو ومرشيشة وتخرّاط وجبال الثنية وغيرها من المداشر كلها أنجبت ثوارا من الرعيل الأول، بعض تلك المداشر تشهد لوجود رفات شهداء في الجبال أو مقابر منسية متفرقة تشهد على فظاعة الاستعمار. كما تشهد هذه المداشر الآن الكثير من الأعمال التطوعية التي قام بها بعض سكانها، ومنهم مجاهدون لنفض الغبار عن بعض تلك المقابر ومنها مقبرة بجبال بلمو، تضم رفات شهداء معركة الشهيد الفذ بوعلام بوقري حسب الشهادات.

شهداء.. قتلوا أحياء بالغاز
من جهته يتحدث السيد محمد الصغير حميش، الذي أدخل سجن تيجلابين رفقة والدته يمينة في 1958، بعد أن استشهد والده محمد بمعركة امجقانن ببلدية سوق الأحد قبلها بسنة، وقال إن كل الشعب الجزائري سنوات الثورة قد شارك فيها بطريقة أو بأخرى، فليس فقط الذي صعد الجبال من صنع التاريخ، بل كذلك الذين آووا المجاهدين أو أعانوهم على الاختباء أو حتى مساعدة الثورة بالقليل، مضيفا أنه كان في التاسعة من عمره عندما أدخل السجن رفقة حوالي 30 عائلة أخرى لممارسة الضغط المعنوي على مجاهدين أفراد تلك العائلات، وقال إنه مكث رفقة أمه في السجن لمدة 14 شهرا، مستذكرا صورا بشعة للتعذيب الذي كان يمارس على النساء بقيادة الضابط ‘دوفال’، وكشف أن صور التعذيب كانت تزداد قسوة ووحشية كلما ألحق جيش التحرير خسائر بجنود المحتل الفرنسي، "ومن بين الوحشية الاستعمارية أذكر قتل حوالي 40 مجاهدا في منطقة جراح الذين وضعوا بمغارة وقتلوا باستعمال الغاز،  ومازلت المنطقة شاهدة على ذلك"، ـ يقول المتحدث ـ فيما يتحدث المجاهدان شارف وذباح عن وجود الكثير من المغارات في جبال وأحراش بعض المداشر التي وضع بها مواطنون وقتلوا بالغاز "إبادات جماعية في حق مدنيين عزّل تشهد عليها مداشر بجراح وغيرها، وسجلها التاريخ بفضل شهادات سكان المناطق"، يقول محمد شارف، رئيس الجمعية الثقافية "اسيرم" التي تسعى إلى إحياء بعضا من تلك الشهادات عبر ندوات ومحاضرات متخصصة تشرف على تنظميها بين الفينة والأخرى "لكشف حقائق بشعة عن استعمار استعمل أبشع وسائل التعذيب والإبادة الجماعية في حق شعب أعزل أراد تحقيق استقلال بلاده"، يقول المتحدث مؤكدا مساعي جمعيته للحفاظ على بعض تلك المعالم التاريخية ومنها مركز غوتتيه، كمعلم تاريخي مهم يشهد على حقبة مهمة من ثورة نوفمبر 1954، فالمركز مهمل تماما بل تقطنه أسر وعائلات منذ الاستقلال ولم يتم ترحيلها رغم الطلبات الكثيرة لإعادة الإسكان حسبما يؤكده لنا السيد بورنان، أحد سكان مركز غوتتيه. في الوقت الذي يؤكد لنا رئيس جمعية "اسيرم" أنه بعث بعدة رسائل لكافة السلطات المعنية من مديريات الثقافة والمجاهدين وحتى الوالي شخصيا "للتدخل العاجل وحفظ الذاكرة التاريخية بنفض الغبار عن المعالم التاريخية الكثيرة المنسية بولاية بومرداس"، ويضيف بالقول "طلبنا من الجهات المعنية التدخل لترميم هذا المركز وجعله متحفا للأجيال حفظا للذاكرة الشعبية والتاريخية من الزوال، فهذا المعلم يشهد على سنوات طويلة لكفاح الشهداء والمجاهدين، ولكنه كما ترون للأسف أصبح مركزا للنفايات، كذلك هناك مركز تعذيب آخر يسمى "لاصاص" ببني عمران، وجعله هو الآخر متحفا مفتوحا للزوار والطلاب ودارسي التاريخ والباحثين أيضا".