السياحة الساحلية بتيزي وزو

ثالة تغراسث... عندما يجتمع سحر الجبال بنسيم البحر

ثالة تغراسث... عندما يجتمع سحر الجبال بنسيم البحر
  • القراءات: 1478
س.زميحي س.زميحي

أثارت قصة "ثالة تغراسث" ببلدية ميزانية الواقعة بالشريط الساحلي لتيزي وزو، أثارت على مر السنين الفضول بسبب كثرة الحديث عنها كموقع طبيعي خلاب. تمتاز بمناظر ساحرة، جمعت الجبال والبحر في لوحة صنعها الخالق وأبدع فيها، لتسرّ الزوار على مدار السنة، وبالأخص بداية مع موسم الربيع إلى غاية الخريف؛ حيث تجلب الطبيعة الخضراء العيون، والنسيم المنعش المتعطشين والهاربين من حرارة المدن، ليقضوا بين أحضانها أوقات لا يعرف قيمتها سوى من عاشها.

خبايا الطبيعة والسياحة لا حدود لها بولاية تيزي وزو، فعلى طول امتداد حدودها مع الولايات المجاورة تتوزع مواقع ساحرة وخلابة، لكل منها ميزاتها وصفاتها، تجعل الزوار وعشاق الطبيعة يغرقون فيها، ويزورونها بدون أن يملوا منها؛ كأن هذه المواقع في كل مرة تكشف عن جزء من جمالها وأسرارها، التي تجعل كل من تقع عيناه عليها، يرغب في العودة إليها في كل فرصة سانحة. وإن بدأنا في عدها لا ننتهي منها. وقد يعجز اللسان أحيانا عن التعبير عندما تبحر العين على طول امتداد الجمال الرباني، لتضع الكلمة نفسها جانبا، لتترك المجال للمشاعر في الاستقرار؛ لما تبعثه من إحساس بالراحة والطمأنينة والسكينة في النفوس، التي تعبر عنها ملامح الوجه المشرقة والبشوشة؛ انبهارا بما رأته وما أحست به وعاشته بين جبال خضراء، ونسيم الهواء المنعش وإطلالة تلك المواقع على البحر بلونه الأزرق؛ ألوان مختلفة تخلق مزيجا من الأحاسيس الجميلة، تترك بصمتها في الذاكرة كذكرى مميزة.

ثالة تغراسث ... أسطورة الزمن الجميل

الحديث عن الطبيعة بمنطقة القبائل يقودنا إلى الحديث عن الجبال والغابات والمرتفعات وأيضا الشواطئ التي تتوزع على إقليم الولاية؛ ما جعل كل ناحية تمتاز بطابع معين أضفى جماله على المنطقة، وزادها همة وشأنا نمط حياة القرويين وعاداتهم وتقاليدهم... وغيرها، لكن أن تجتمع كلها في مكان واحد فإن ذلك الموقع لا يمكن وصفه بكلمة ولا جملة، ولا ننتهي من الوصف مثل ما هي الحال بالنسبة لأسطورة ثالة تغراسث. كثيرا ما نسمع تسميات قرى تثير الدهشة والفضول من مصدرها، لكن كثيرا ما تثير الذهول عندما نعرف تاريخها وعمقها وخباياها، لنكتشف أسرارا تجعل الاسم أرقى مما كنا نعتقد، والموقع ذا مكانة ومعنى هامين بالنسبة لتاريخ وحاضر ومستقبل المواطن؛ لكونها ترتبط بشخصيته وهويته.

ثالة تغراسث التي تعني "منبع خلية النحل"، إحدى قرى بلدية ميزارنة الواقعة شمال تيزي وزو، التي لا يمكن المرور عليها بدون سماع صوت زقزقة العصافير وهمسات جدران المنازل التي تنام على الكثير من الحديث، تحاول أن تروي وتسرد حياة أجيال وأجيال تعاقبت، وتركت كل منها بصمتها بكل زاوية، لاتزال تشهد عن ذلك الزمن الجميل؛ عندما كان الماء يتدفق بدون توقف بمنبع القرية، في الوقت الذي تصل مياه الحنفيات مرة كل 10 أيام؛ حيث روت "ثالة" عطش نحو 1500 مواطن من سكان القرية وعابري السبيل، الذين يتوقفون لتذوق الماء العذب والبارد الذي يبعث الحياة بعد قسوة حرارة الشمس الحارقة. كما أن أغلب السكان كانوا يملكون الآبار التي يعتمدون عليها لتلبية احتياجاتهم وكذا سقي محاصيلهم، غير أنهم حافظوا على منبع خلية النحل للشرب، الذي يُسمع خريره وهو يسيل نحو الأسفل كالعسل، ليتم تعبئته في الدلاء؛ إذ كثيرا ما اعتقد الغرباء عن القرية أن الماء حلو وله مذاق العسل، وكثيرا ما تساءلوا عن سر هذه التسمية، ولا يعلمون أن المنبع قديم يتواجد بين أحضان الغابة، يمكن استغلاله من قبل السكان والحيوان.

واليوم ومع تطور العمران وزحف الإسمنت، وصلت المباني إلى المنبع بعد تدخل يد الإنسان في الطبيعة. وتشير الأسطورة إلى أن المؤسس سيدي علي أوحمزة الذي وطئت قدماه المنطقة في زمن غابر، قام برفع المنبع الذي أعيد بناؤه في موقع سفلي، وترك بذلك المؤسس بصمته عبر وضع بالقرب من مصدر الماء، قطعة من الفلين التي تُعتبر المادة الأولى والأساسية لبناء خلايا النحل، كذلك بواسطة قطع من الفلين تقوم النساء بغسل الملابس، وتعمل أيضا قطع منه على سد فوهات إكوفان "خزان البقول الجافة المصنوعة من الطين"؛ حيث إن هذه المادة لها استعمالات متعددة من الاقتصاد التقليدي المرتكز على الفلاحة وخدمة الأرض.

وقال أحد السكان إن المشايخ وكبار القرية بعدما وجدوا المنبع وقطعة الفلين بالقرب منه، أصبحوا يطلقون عليه اسم "ثالة تغراسث"؛ نسبة إلى المنبع المائي، وقاموا بتوضيح ذلك، بأن الماء فيه شفاء مثل العسل الذي يشفي من عدة أمراض، ومنذ ذلك الحين تطورت الدشرة من مجموعة منازل إلى قرية تحمل حكايات وتاريخا جميلا، يبقى يعبّر عن أسرار وخبايا القرية في علاقتها بالأولياء الصالحين والمساهمين في نشر رسالة الإسلام، وكذا أهمية المنابع الطبيعية التي تُعد مصدرا حيويا يروي العطش. كما أن للماء استعمالات عديدة ذات علاقة بطقوس ومعتقدات؛ مثلا هناك منابع معروفة بأنها تشفي من بعض الأمراض؛ كحصى الكلى وفقر الدم وغيرهما.

نشر تعاليم الدين الحنيف والرسالة المحمدية... الوجه الآخر للقرية

البحث في الكتب التاريخية والدينية للعلماء ورجال الدين لا يحمل دائما أجوبة عن أسئلة تتعلق بتاريخ وآثار بعض الشخصيات، وإن وُجدت تكون ناقصة مثل ما هي الحال بالنسبة للشيخ أوحمزة، الذي يُجهل تاريخ ميلاده، لتبقى بعض الأساطير تنتقل شفهيا من شخص لآخر، والتي أضحت بحاجة إلى التدوين، لتكون مصدر البحث للأجيال اللاحقة، لتبقى مغروسة في الذاكرة، تحكى على مر السنين. ولقد قام بعض الأساتذة المؤرخين بتحديد سنة 1321 عام وفاة سيدي علي أوحمزة؛ حيث تحمل المقبرة القديمة والمسجد اسمه. وهناك من يقول إن قبره يتواجد على بعد أمتار من أقدم شجرة زيتون، والذي لم يتبق منه سوى بعض الأحجار تحدد مكان دفنه بالقرب من نجليه يحيى وسيدي عثمان، حيث ساهم سيدي علي أو حمزة، كغيره من المشايخ؛ سيدي اعمر وسيدي علي أوزاروق... وغيرهما في نقل كلام الله والرسالة المحمدية، لتبقى نداءاتهم ورسائلهم اليوم تُتداول عبر جدران "تمعمرث"، التي أصبحت اليوم تضم مكتبة، وقاعة اجتماعات قسم تعليم القرآن، والإطعام... وغيرها، حيث عمل الاستعمار في إطار سياسة الاستدمار، على القضاء على الثقافة والهوية الجزائرية؛ بتحويل تمعمرث القديمة إلى مدرسة بداية من سنة 1957.وتميزت "ثالة تغرست" على مر السنين وكغيرها من قرى منطقة القبائل، بكثرة الأئمة وأساتذة التعليم الديني باللغة العربية، حيث درس أطفال القرى بمدراس التعليم القرآني. ومرت أجيال وأجيال عبر تمعمرت التي علمت ونشرت الوعي، ونقلت مبادئ التربية السليمة وفقا لتعاليم الدين الحنيف وركائز الإسلام، وهذا قبل بداية فتح المدارس سنة 1965.

وتبقى تمعمرت وزوايا التعليم القرآني تذكرنا بالتاريخ العريق للقرى ومسيرة المشايخ، الذين تركوا بصماتهم في كل أمور الحياة، وأصبحت اليوم آثارا  ومعالم لا تقدر بثمن. ودفعت الكثير للبحث والغوص في هذا العالم للكشف عن خبايا كثيرة وجوانب أخرى؛ لكون القرى مخازن للتراث والتاريخ والسياحة والثقافة... وغيرها.

الهندسة المعمارية... سرد لحياة قديمة وثقافة عريقة

زيادة على الجانب السياحي والديني والتاريخي، تتميز قرية ثالة تغراسث بجمال الهندسة المعمارية، حيث يخيَّل لكل من يشاهدها من بعيد، كأنها لوحة فنية، ومبان مشيدة بالطين والحجر، وسقفها "قرمود" أحمر اللون. تتوسط أشجارا ومساحات خضراء ومرتفعات؛ كأنها تنحني نحو القرية لتحتضنها، وفي نفس الوقت تعانق البحر الذي يحرسها. فعند زيارة القرية التي تقف على شرفة تطل على البحر الأبيض المتوسط، أول شيء يثير الانتباه الهندسة المعمارية القديمة، التي شيدت عليها السكنات، والتي تزيد القرى جمالا لا تشبع العين من النظر إليه. وبالرغم من مرور السنين على بنائها وتعرضها للعوامل الطبيعية لاتزال صامدة وواقفة، تؤوي العائلات صيفا وشتاء، وحتى وإن أُدخلت تغيرات على البناء بمنطقة القبائل، سكانها استطاعوا الجمع بين البناء القديم والمعاصر؛ بوضع لمسة تبقي على ذلك الجمال والهندسة المعمارية.

مواد بسيطة ترتكز على التراب والحجر، يستعان بها لتشييد جدران سميكة باعتماد أغصان أشجار الزيتون وتثبيت السقف، بوضع ما يسمى "أجقو"؛ غصن كبير يتوسط المنزل، يكون مرتفعا عن الغصنين الكبيرين اللذين يوضعان في الأطراف، مع استعمال خلطة التراب والماء لإغلاق الثغرات والمسامات المفتوحة، لمنع تسرب الحرارة والحشرات وغيرها، ثم وضع القرمود، ومادة من الطين "ثوميلت" لتزيين الجدران؛ ما أضفى جمالا على المنزل، يعانق رائحة زكية تنبعث من المكان. وتكتمل صورة البيت الجميل بإنجاز "ثكنّة"؛ أي غرفة صغيرة ذات نافذة تطل على خارج المنزل، وزريبة صغيرة للحيوانات؛ "أداينين".

وأصبحت اليوم هذه المنازل مفتوحة للزوار، للاطلاع على حياة السكان في القديم؛ حيث ربّوا أجيالا وأجيالا وسط إمكانيات منعدمة وقساوة الطبيعة، لكن كان الحب والاحترام أساسيين، وكانت كل عائلة تحرص على توفرهما طيلة مسار تربية الأبناء.