الباحث بيار دوم يتحدث إلى «المساء» عن «الحركى»:

على فرنسا أن تعترف بجرائمها في الجزائر

على فرنسا أن تعترف بجرائمها في الجزائر
  • القراءات: 43420
حاورته: لطيفة داريب حاورته: لطيفة داريب

يتطرّق الصحفي والباحث في التاريخ الفرنسي بيار دوم في حديثه إلى «المساء»، لمواضيع حساسة تتعلق بكتابه «آخر الطابو، الحركى الذين بقوا في الجزائر بعد الاستقلال»، كعدد الجزائريين الذين ارتدوا البزة العسكرية الفرنسية في فترة الاحتلال، وكذا مصير من تبقّى من الحركى بالجزائر بعد الاستقلال، علاوة على ضرورة اعتراف فرنسا بجرائمها الاستعمارية وغيرها من المسائل.

معظم «الحركى» لم يغادروا الجزائر

❊ أنكرت في مؤلَّفك «آخر الطابو، الحركى الذين بقوا في الجزائر بعد الاستقلال»، مقتل جميع هؤلاء «الحركى»، هل لك أن تقدم توضيحات أكثر في هذا الشأن؟

❊❊ نعم، أنكرت هذه المقولة الشائعة في الجزائر وفرنسا، التي تتحدث عن أن جميع «الحركى» الذين لم يغادروا الجزائر بعد الاستقلال، قُتلوا، وهذا بفعل الأبحاث التي أجريتها لمدة تزيد عن ثلاث سنوات، حيث التقيت بعشرات وعشرات «الحركى» الذين يعيشون في الجزائر، واطلعت أيضا على مصادر من وزارة الدفاع الفرنسية، لأتأكد من أنه في سنة 1962، غادرت قلة من «الحركى» إلى فرنسا، ولكن الأغلبية بقوا ولم يتعرضوا للقتل.

 ❊ ذكرت عدّة أرقام تخص هذا الموضوع، كيف توصلتَ إلى تحديدها؟

متأكد من أرقامي

❊❊ تطلّب مني ذلك عملا كبيرا، خاصة أن التعامل مع الأرقام في المسائل التاريخية، حساس جدا. أوّل سؤال طرحته كان: «كم كان عدد «الحركى» في بداية الثورة الجزائرية؟» لأنتقل إلى سؤال ثان: كم كان عدد الرجال البالغين الذين ارتدوا بزة العدو؛ أي البزة العسكرية الفرنسية؟ وشرحت في الكتاب طريقة بحثي في قضية الأرقام وكيفية تحديدها، لهذا أقول إنهم كانوا على الأقل، 420 ألف جزائري ـ حسب تعريف اليوم ـ ومسلم، حسبما كان يطلق عليهم في الفترة الاستعمارية، ارتدوا البدلة العسكرية، وهو عدد كبير مقارنة بعدد الجزائريين في تلك الفترة، الذين كانوا 9 ملايين مقابل مليون من الأقدام السوداء، وهو رقم يناقض الآراء التي تقول إنّ كل الشعب الجزائري وقف وراء الثورة الجزائرية، وأنه توجد قلة فقط من «الحركى» ذهبوا إلى فرنسا، والقلة القليلة بقيت في الجزائر، وبالتالي تم، على حسب بعض الجزائريين، «تطهير الجزائر من الخونة». وأضيف أنه من بين 420 ألف جزائري بالغ ارتدوا البزة العسكرية الفرنسية، نجد 50 ألف مجند في الجيش الفرنسي، و120 ألفا ممن أدوا الخدمة العسكرية، و250 ألفا من الوحدات التي تضم مقاتلين مجندين محليا.

❊ هل أنت واثق من صحة هذه الأرقام؟

قادة الثورة لم يصدروا أوامر بتعنيف وقتل «الحركى»

❊❊ نعم لأنني اعتمدت في هذه المسألة على عدة مصادر، كما قمت ببحث ميداني، تطلّب مني ذلك التنقل إلى الكثير من القرى وقطع أكثر من 20 ألف كيلومتر في الجزائر، باعتبار أن أغلب «الحركى» من الأرياف. صحيح أن أرقامي هذه صدمت وزير المجاهدين الجزائري حينما صدر كتابي في فرنسا في أفريل 2016، وقال إنه «ليس على الفرنسيين كتابة تاريخنا، ولكنني باحث لا يكتب إلا المعلومات المتأكد منها رغم أنني قدمت رقم 420 ألفا كأدنى حد؛ لأن المعطيات تشير إلى عدد أكبر. بالمقابل، لم أحدد أي رقم بالنسبة لعدد «الحركى» الذين قُتلوا بعد الاستقلال في الجزائر، فقدمت عددا مبهما وهم بالآلاف، ولكن في نفس الوقت، يمكن للباحثين الجزائريين أن يقوموا ببحث ميداني من خلال التنقل إلى القرى وسؤال الشيوخ والعجائز الذين يحفظون الذاكرة المحلية عن هويات «الحركى» والمجاهدين والشهداء أيضا، ولهذا أؤكد أنني لا أكتب إلا ما أنا متأكد منه، وأذكر أنني في كل مرة كنت أحاور حركيا، كنت أسأله عن نظرائه، فكان يجيبني بدون تردد عن الحركى الذين مكثوا في القرية، وعن الذين قُتلوا والذين غادروا أيضا الجزائر.

شجاعة خارقة لمن فر من الجندية الفرنسية والتحق بالثورة

❊ ذكرتم أيضا أن القادة الجزائريين لم يصدروا أوامر بقتل «الحركى»، هل من تفاصيل أوفر حول الموضوع؟

❊❊ طرحت في كتابي سؤالا يتعلق بهوية من أمر بتعنيف وسجن وقتل «الحركى»، واكتشفت بشهادة «الحركى» الذين تعرضوا للاعتداء الجسدي أو الذين شهدوا عمليات قتل، أن المجاهدين الذين حاربوا في الجبال رفضوا الانتقام من «الحركى» وعادوا إلى ديارهم وهم على دراية بأن ما قاموا به كان واجبا مقدسا، بل إن من قام بذلك كان من «المارسيين»؛ أي مجاهدي شهر مارس، الذين «التحقوا بالثورة» بعد إقرار وقف إطلاق النار. هناك عائلات عانت كثيرا من ويلات الاستعمار، فأرادت الانتقام، علاوة على عمليات مست «الحركى» ولكن كانت عبارة عن تصفية حسابات ليس لها علاقة بالحرب، وتم من خلالها استغلال الفوضى التي حدثت في فترة صيف 1962. بالمقابل، نفيت نفيا قاطعا إصدار السلطة الجزائرية بيانا تطالب فيه بالاعتداء على «الحركى»، مع العلم أنه في صيف 1962 لم تكن هناك سلطة جزائرية موحدة، بل كانت الحكومة المؤقتة وهيئة الأركان بقيادة بومدين، الذي كان متحالفا آنذاك مع بن بلة والولاية الثالثة والولاية الرابعة، أي كانت هناك سلطات متعددة، ومع ذلك لم يصدر عن قادتها أي أمر ضد «الحركى». وفي هذا السياق، وجدت بيانا لمحند أولحاج قائد الولاية التاريخية الثالثة، يطلب فيه عدم مس أي شعرة من رأس «الحركى»، معللا ذلك بانتهاء الحرب وعدم الرغبة في اندلاع حرب أخرى، تكون هذه المرة بين أبناء الشعب الواحد، ولا يمكن أن أؤكد هذا الأمر بالنسبة للقادة من المراتب السفلى. 

في إطار آخر، تعرّض «الحركى» للعنف في الفترة الممتدة من ربيع 1962 إلى ربيع 1963، حينما كانت الجزائر غارقة في فوضى كبيرة، حيث لم تستطع حكومة بن بلة بالعاصمة، أن تسيطر على كافة التراب الجزائري، ليأتي خطاب بن بلة في ربيع 1963، حينما قال إن كل من يقتل «حركيا» يتعرض للإعدام.

تطرقي إلى  ذا الطابو أراح الكثيرين

❊ قضية أخرى تعرضت لها في كتابك، وهي عن الجزائريين الذين فروا من الجندية والتحقوا بالثورة الجزائرية، ما كان مصيرهم بعد الاستقلال؟

❊❊ تناولت في كتابي مقطعا عن الفارين «المسلمين» أو كما نسميهم بعد الاستقلال بالجزائريين من الجندية والتحاقهم في السنوات التي تلت اندلاعها، وأقول إن هناك إشاعات كثيرة في الجزائر تحوم حول هذا الموضوع، من بينها أن الجنرال ديغول طلب من المجندين الجزائريين والضباط التظاهر بالفرار من الجندية والالتحاق بالصف الجزائري، حتى يخدموا مصالح فرنسا بعد الاستقلال. عن هذه الإشاعة أجيب: ربما حدث ذلك، ولكنني أضيف: «أين هو البرهان؟»؛ نعم، فأنا حينما أكتب شيئا يجب أن آتي ببرهانه، وإلا سيصبح عبارة عن قذف. بالمقابل أريد أن أؤكد أن كل الجيوش الكولونيالية تضم أفرادا من البلد الأصل، ولهذا أقول إن فرنسا حينما احتلت الجزائر سنة 1830، قتلت كل من كان يقف ضدها، ولكن بعد ثلاث سنوات انضم جزائريون تحت رايتها العسكرية، حتى إن هناك من الجزائريين من وقفوا مع الجيش الفرنسي ضد الأمير عبد القادر. كما كان يُنظر إلى العسكري الجزائري المنخرط في الجيش الفرنسي قبل اندلاع الثورة الجزائرية، بإعجاب كبير، خاصة إذا كان قياديا، ولهذا أقول إن ما لا يقل عن 50 ألف جزائري التحقوا بالجيش الفرنسي إراديا، وأصبحوا مهنيين ومحترفين، عكس الكثير من الجزائريين الذين التحقوا بالجبال، وكان أغلبهم من الريفيين الذين لا يمتلكون الخبرة العسكرية. وأمام هذا الأمر حاول قادة الثورة إقناعهم بالانضمام إليهم، ولكن عددا قليلا منهم من التحق «بالجبل»، وكان ذلك عنوانا للجسارة؛ لأن معظم من لبى النداء استشهدوا ولم يكن من السهل أبدا التخلي عن جيش منظم وقوي بجماعة متكونة غير محترفة وتملك أسلحة بسيطة، ولهذا أحترمهم جدا؛ فهم أبطال وأصحاب شرف. وأضيف أن الرئيس بومدين البراغماتي أراد إنشاء جيش محترف بعيد عن البريكولاج، فعيّن هؤلاء المحترفين في مناصب قيادية بعد الاستقلال، وهو ما أثار غيرة القادة الآخرين، الذين صعدوا في المراتب القيادية بفعل شجاعتهم في الميدان، لكنهم لا يستطيعون تكوين العدد الكبير من المجنّدين، ولهذا أعابوا فعلة بومدين وأطلقوا إشاعات، مفادها أن الآخرين يعملون لصالح فرنسا.

❊ جرت العادة أن نطلق على كل جزائري منخرط في وحدات المقاتلين المجندين محليا، «حركي»، فهل هذه التسمية صحيحة؟

❊❊ قام المستعمر الفرنسي بتأسيس وحدات تضم مقاتلين مجندين محليا، وتتكون من خمسة أقسام، وهي: المخزن (مكاتب تهتم بالشؤون الاجتماعية للمحليين)، مجموعات الدفاع عن النفس، مجموعات متنقلة للأمن، والعسس و«الحركى»، إذن «الحركى» هم قسم من هذه الوحدات، ولكن اختلطت مهامها مباشرة بعد تأسيسها، وأصبح كل من ينضم إلى هذه الأقسام يطلق عليه «حركي». هذا الأخير كان يتلقى راتبا شهريا ثابتا يقدّر بـ 25 ألف فرنك قديم. وكان من النادر أن يحظى بوسام نظير خدماته، بل كان محتقرا، وكان يوضع في مقدمة العمليات حتى يتلقى الرصاصات الأولى.

❊ هل غيّر كتابك حياة «الحركى» الذين أُخذت شهاداتهم؟ وهل أنت على تواصل معهم؟

❊❊ سؤال جيد، لا يمكنني أن أقول بأن هذا الكتاب قد غيّر حياة «الحركى» الذين لم يغادروا الجزائر بعد الاستقلال، ولكنهم شعروا بالراحة وهم يقصّون عليّ جزءا من حياتهم حتى وإن لم يكن بالمشرّف، وهذا بعد حياة طويلة من السرية والذل، باعتبار أن المجتمع الجزائري ينبذ «الحركي»، بل يعتبر هذه الصفة خيانة وشتيمة وعيبا كبيرا. نعم الكتاب جاء في آخر حياة هؤلاء، لكنه تناول حياتهم بموضوعية وبدون أحكام مسبقة. بالمقابل أتواصل مع معظمهم، وأهديت لهم كتبي حينما صدرت في فرنسا، مع العلم أنني غيّرت معظم أسمائهم مع الاحتفاظ بأسماء قُراهم بعد أخذ موافقتهم.

❊ بعد بحث دام ثلاث سنوات حول «الحركى»، هل أدركت أسباب نبذ المجتمع الجزائري لهم؟

❊❊ بسؤالك هذا تدفعينني للتطرق إلى جوانب حساسة من هذا الموضوع. وأجيب بأنني كمؤرخ، من الضروري أن أفهم الأمور لكي أحللها، لهذا أقول إنّ التأكيد على أن الحركي هو من عذّب واغتصب صحيح، ولكن قلة قليلة منهم من قام بذلك، بيد أن معظم من قام بهذه الأفعال الشنيعة كان المستعمر الفرنسي.

❊ ولكن الحركي كان أكثر سُما بالنسبة للمجاهد من المستعمر الفرنسي بحكم أنه كان ابن بيئته، أليس كذلك؟

❊❊ بلى، وقد كان هذا هو منطق الجيش الفرنسي في تجنيد «حركى» من أبناء المنطقة؛ لأنهم يعرفون سكانها وأحراشها ومغاراتها. وأضيف أنه لو حُطم هذا الطابو ولو استطاع الأبناء والأحفاد سؤال آبائهم وأجدادهم عما فعلوه في فترة الاستعمار، لربما اكتشفوا أشياء وأشياء، ولتم القضاء على الشبح المخفي في تاريخ العائلة. وأخيرا أقول إن شتم «الحركى» يمكن أن يكون له غرض التأكيد ولو بطريقة سلبية على الانتماء إلى العائلة الثورية. 

نعم مع الاعتراف وليس الاعتذار

❊ أشار بعض أبناء «الحركى» في شهاداتهم التي تطرقت لها في مؤلفك، إلى فخرهم بما فعله آباؤهم، إلامَ يعود ذلك؟

❊❊ أعتقد أنه خطاب ظاهري لأبناء «الحركى»، وأنه عبارة عن رد فعل عنيف لكل الهجوم الذي تعرضوا له؛ كونهم أبناء «الحركى». أتحدث هنا عن وضعية نفسية غامضة وجريحة، فهم، من جهة، سعداء باستقلال الجزائر، ومن جهة أخرى لا يستطيعون نبذ آبائهم أو تلقيبهم بالحقيرين. وأحيانا حينما كان «حركي» يقص عليّ حياته ويكشف كيف كان مع الثورة، وكيف وبفعل ظروف معقدة، أصبح مع الطرف الآخر يشعر الابن أو حتى الحفيد بالارتياح.

❊ هل كان وصول بيار دوم إلى الأرشيف المتعلق بقضية «الحركى» سهلا؟

❊❊ كان ذلك بالنسبة للأرشيف الفرنسي الذي يبقى أغلبه متاحا أمام الباحثين، عكس نظيره الجزائري المغلق، حتى إن الطلاب الجزائريين الذين يتناولون في أبحاثهم الثورة الجزائرية، مجبَرون على التنقل إلى فرنسا لمعاينة الأرشيف.

❊ لماذا أعدت نشر كتابك هذه السنة في دار نشر جزائرية؟

❊❊ لسبب اقتصادي محض؛ فلو قامت دار النشر الفرنسية التي أصدرت كتابي ـ وهي دار «أكت سود» ـ ببيع كتابي في الجزائر لما اشتراه أحد بفعل سعره الباهظ (25 أورو)، ولهذا عقدت اتفاقية مع دار النشر الجزائرية «كوكو»، التي تبيعه بـ 1200 دينار، وأؤكد في السياق ذاته أنه نفس النص.

❊ ما رأيك في طلب الجزائر من فرنسا الاعتذار على جرائمها الاستعمارية؟

❊❊ مهم جدا اعتراف فرنسا بجرائمها الكولونيالية. وأنا كفرنسي، يسعدني، بل يريحني أن يعترف بلدي بجرائمه الكولونيالية وبكل المأساة التي سبّبها للشعوب الأصلية، في حين لا أرى نفعا ولا أجد نفسي معنيا باعتذار فرنسا للجزائر أو لأي بلد آخر عن هذه الجرائم؛ أولا لأنني ولدت سنة 1966 ولم أتسبب في أي جرم، وثانيا كلمة «اعتذار» لها مفهوم ديني، وأنا أرفضه لأنني أؤمن بالعلمانية، ولهذا أطالب الجزائر باختيار كلماتها، وعليها أن تفرض على فرنسا الاعتراف بجرائمها وليس الاعتذار.

❊ فرنسا ترفض الاعتراف لأنها لا تريد أن تدفع تعويضا ماليا لكل ضحاياها، أليس كذلك؟

❊❊ هو كذلك؛ فوزير المالية الفرنسي يخاف من «إفراغ» الخزينة، ولكنه ليس السبب الوحيد؛ لأن الساسة الفرنسيين يستعملون حرب الجزائر في سياساتهم لجلب أصوات الأقدام السوداء و«الحركى»، في حين لا يهتمون بالهموم الحقيقية لهذه الفئات، وهو ما حدث مؤخرا مع الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، الذي وبغية جلب أصوات «الحركى» اعترف في خطابه مؤخرا، بمعاناتهم وهو يذرف دموع التماسيح، مما اعتبره في غاية العار.