البروفيسور احسن تليلاني لـ “المساء”:

الذاكرة المشتركة وحّدت الشعب الجزائري

الذاكرة المشتركة وحّدت الشعب الجزائري
البروفيسور احسن تليلاني
  • القراءات: 2994
مريم. ن مريم. ن

يقف البروفيسور احسن تليلاني رئيس مؤسسة الشهيد زيغود يوسف ومدير الثقافة بولاية عنابة، في هذا الحوار، عند مسألة الذاكرة كرباط، يجمع شمل الجزائريين، ويجنبهم ويلات التمزق والتشرذم الذي صد ثغراته آباؤهم، حاثا على الاستثمار في هذا التاريخ لتحصين أجيال المستقبل. ويُعد المتحدث كاتبا وناقدا ومترجما، وله أكثر من 15 كتابا، تشمل أقاليم المسرح والنقد والترجمة والتاريخ والإعلام وأدب الأطفال. كما له عشرات الدراسات والبحوث المنشورة في مختلف المجلات الأكاديمية.

مؤتمر الصومام هو ذاكرة مشتركة لكل الجزائريين، ولذلك أعتقد أن التاريخ ليس هو ما مضى وانتهى، ولكنه يمثل النقاط المضيئة التي تنير حاضرنا ومستقبلنا.

كيف تكون ذاكرة 20 أوت فرصة لطي الخلافات التاريخية وتشتّت الذاكرة؟

❊❊ في اعتقادي أن 20 أوت هي مناسبة للوحدة سواء ما تعلق بتاريخ 55 أو 56، وهو ما يسمى بيوم المجاهد؛ إذ هو بالفعل فرصة لتوحيد الشعب الجزائري من خلال إحياء الذاكرة المشتركة. ففي هجومات 20 أوت 1955 سالت دماء الجزائريين من مختلف المناطق خاصة في الشمال القسنطيني. واتحد الشعب مع جيش التحرير “خاوة خاوة” من أجل إنجاح الهجومات، وإدخال القضية الجزائرية لأول مرة، أروقة منظمة الأمم المتحدة. وفي مؤتمر الصومام 20 أوت 1956 اجتمع قادة الثورة من مختلف مناطق الوطن، لمناقشة وتوحيد التنظيم الثوري، والتوقيع على أرضية الصومام التي تمثل ميلاد الدولة الجزائرية من رحم الثورة؛ فالصومام، إذن، هو ذاكرة مشتركة لكل الجزائريين، ولذلك أعتقد أن التاريخ ليس هو ما مضى وانتهى، ولكنه يمثل النقاط المضيئة التي تنير حاضرنا ومستقبلنا. والثورة التحريرية بمبادئها وقيمها وعبرها هي رأسمالنا الحقيقي، الذي من شأنه أن ينجينا من أي تشتّت أو ضياع.

مقصّرون في التدوين الفني للتاريخ وفي توثيق انتصاراتنا!

هل تم توثيق جرائم ومجازر 20 أوت؟

❊❊ جرائم 20 أوت كبيرة جدا ومريعة؛ لأنها مجازر ومذابح ارتُكبت في وضح النهار. وقُدّر عدد الشهداء بحوالي 20 ألف شهيد، حسب آخر دراسة أمريكية موثقة ومؤسسة على وثائق من الأرشيف الفرنسي. هذه المجازر نجدها خاصة في مدينة سكيكدة؛ حيث كان الانتقام الاستعماري بشعا. وقد رأى الشهود بأعينهم الدماء تسيل عبر الأرصفة مثل المياه. لقد تم حينها تجميع الناس (الجزائريين طبعا) في ملعب سكيكدة، وإعدامهم بالجملة، ودفنهم بالجرافة، وبعضهم كانوا أحياء!

وامتدت الجرائم إلى العديد من المناطق، منها عين عبيد بقالمة؛ حيث تم قتل نصف سكان البلدية، وكذلك في القل وبرمضان جمال والحروش وغيرها من المناطق، وهي جرائم كثيرة لم نوثقها لليوم؛ لأن توثيقها يقتضي تسليم أرشيف مخابر الشرطة الفرنسية وثكناتها العسكرية، وأضرب مثلا بالباخرة التي قدمت من فرنسا ورست بميناء سكيكدة صبيحة يوم 20 أوت 1955، وكانت تحمل على متنها مئات العمال المهاجرين الجزائريين الذين قدموا من ديار الغربة وكانوا من مختلف مناطق الجزائر، فوجد هؤلاء المهاجرون أنفسهم في قلب الأحداث، فشاركوا في الهجومات، وتم قتل أغلبهم بدون أن نعرف إلى اليوم هوياتهم؛ فلماذا لا تسلّمنا اليوم البحرية الفرنسية قائمة أسمائهم؟ وهذا ما يدل على أن آلاف الشهداء بلا قبور!

في هجومات 20 أوت 1955 سالت دماء الجزائريين من مختلف المناطق، خاصة في الشمال القسنطيني. واتحد الشعب مع جيش التحرير “خاوة خاوة”.

ما هو ردكم على المشككين الساعين، اليوم، لضرب مؤتمر الصومام؟

❊❊ جاء مؤتمر الصومام كمبادرة من اقتراح الشهيد زيغود يوسف الذي كان صاحب فكرة عقد هذا المؤتمر الجامع لقادة الثورة، خاصة بعد نجاح هجومات 20 أوت 55، وكان ينوي عقده في منطقة بوزعرور في جبال عين القشرة بسكيكدة، لكن المرحوم عبان رمضان اقترح عقده بمنطقة الصومام ببجاية؛ لأنها جغرافيا تقع في وسط الجزائر، ولأنها أكثر أمنا وحراسة. وبالفعل انعقد المؤتمر هناك، وكان الجو أخويا، والنقاش ديموقراطيا امتد من 13 حتى 20 أوت 56. ووقّع القادة جميعا على كل قرارات مؤتمر الصومام. وفي معلوماتي لم يشكك أحد من المشاركين في اتفاق القادة إلا المرحوم أحمد بن بلة؛ لسببين شخصيين، يتعلق الأول بالقرار القاضي بأولوية الداخل على الخارج، وبن بلة كان موجودا في الخارج، والثاني لأن المؤتمر لم يدرج اسم بن بلة ضمن قائمة المجلس الوطني للثورة. أما رفاقه مثل بوضياف وآيت أحمد فلم يشككوا في المؤتمر. والذين يقولون بأن زيغود خرج غاضبا ورافضا فهم أيضا يجانبون الصواب؛ لأن الحقيقة أن زيغود كان فرحا بالمؤتمر وموافقا على قراراته، والدليل أنه وقّع عليها. وأعتقد أن الصورة التذكارية التي نراها جميعا وجمعت المشاركين في المؤتمر، هي خير دليل، حيث نرى عبان رمضان يقف إلى جانب زيغود يوسف، ويربت على كتفيه، وهي صورة تدل على التوافق الكامل، وما اختيار 20 أوت لمؤتمر الصومام إلا دليل على اعتراف وتكريم قادة الثورة للبطل زيغود يوسف، الذي نظم هجومات الشمال القسنطيني.

ما هو دور مؤسسة زيغود يوسف التي ترأسونها في الحفاظ على الذاكرة واللحمة الوطنية؟

❊❊ مؤسسة الشهيد زيغود يوسف هي جمعية وطنية تهتم بالتاريخ وتركز على دور الشهيد زيغود يوسف. وعلى الرغم من قلة إمكانياتنا وموانع وباء كورونا، إلا أننا قمنا بعدة نشاطات واقعية وافتراضية؛ مثل نشاطات مئوية ميلاد زيغود يوسف هذا العام، والقافلة التاريخية التي نظمناها العام الماضي إلى منطقة الصومام وسميناها “قافلة وحدة الذاكرة من أجل الوحدة الوطنية”، وكانت ابنة الشهيد زيغود يوسف السيدة شامة، على رأس هذه القافلة التي ضمت الأسرة الثورية من ولايتي سكيكدة وقسنطينة، وكان اللقاء في الصومام مع جمعية عبان رمضان ومؤسسة عميروش، إضافة إلى العشرات من الأسر الثورية بولايتي بجاية وتيزي وزو.

ومثلما التقى آباؤنا في الصومام خلال الثورة كان لقاؤنا نحن أبناء جيل الاستقلال، على خطاهم متشبثين بوحدتنا الوطنية. وبالمناسبة أعتقد أن مقامات الشهداء وأماكن المعارك ومقابر الشهداء من شأنها أن تذكي ذاكرتنا الوطنية، وتحيي فينا قيم حب الوطن.

وهكذا يذكر التاريخ أن زيغود يوسف وعبان رمضان حملا تصورا شاملا عن ثورة أول نوفمبر؛ حيث راهنا على الشعب كمتغير ثابت في كل التحولات الجارية والتحديات القائمة.

وبالنسبة للشهيد زيغود يوسف فقد كان على وعي تام بامتداد الثورة في أوساط الشعب، وبالتالي وجوب انخراطه فيها ميدانيا.

“قافلة وحدة الذاكرة من أجل الوحدة الوطنية”، شهدت حضور ابنة الشهيد زيغود يوسف، السيدة شامة.

وقامت مؤسسة الشهيد العقيد زيغوت يوسف التاريخية، بتنظيم العديد من التظاهرات في مختلف المناسبات الوطنية منها ـ  حسبما تمت الإشارة إليه ـ احتفالية وطنية كبرى، انطلقت فعالياتها في 18 فيفري واستمرت إلى غاية 23 سبتمبر بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد الشهيد البطل زيغوت يوسف، أحد أبرز قادة ثورة أول نوفمبر، في إطار البرنامج الذي أعدته تحت إشراف وزارة المجاهدين وولاية قسنطينة؛ احتفالا باليوم الوطني للشهيد، الذي يتزامن مع ذكرى مئوية الشهيد زيغوت يوسف الذي ولد في 18 فيفري 1921، وكان هدف المبادرة إحياء الذاكرة الوطنية، والاستفادة من سيرة شهداء ثورة أول نوفمبر، والتعريف بسيرة الشهيد البطل زيغوت يوسف، بالإضافة إلى نفض الغبار عن نضاله وكفاحه ومواقفه، وتحليل مكامن العبقرية في شخصيته، مع تقديم دراسة كفاح زيغوت يوسف في الحركة الوطنية، ودوره في الثورة التحريرية، والتعريف بأهم الشخصيات الثورية التي تعالقت معه، بالإضافة إلى جمع وحفظ تراث الشهيد زيغوت يوسف، والدراسة والبحث في المواضيع التاريخية المرتبطة بالثورة التحريرية في الشمال القسنطيني.

ولتجسيد هذه الأهداف اقترحت المؤسسة، حسب بيان لها، استثمار المناسبات الوطنية لإحياء مئوية زيغوت يوسف، من خلال إقامة نشاطات ثقافية، وندوات تاريخية، ومعارض للذاكرة في كل مدن الشمال القسنطيني.

عبان رمضان يقف إلى جانب زيغود يوسف، ويربت على كتفيه، وهي صورة تدل على التوافق الكامل.

ما مدى استثمار هذا التاريخ في أعمال إبداعية لتصل إلى الأجيال؟

❊❊ ذلك مهم جدا، وهذا ما ينقصنا كثيرا؛ لأن عالم اليوم أصبح يعتمد على السمعي البصري، وعلى التدوين الفني للتاريخ؛ أي أن نكتب تاريخنا من خلال إنجاز تماثيل للشهداء والأبطال، ومن خلال كتابة سيرهم ومذكراتهم وقصصهم، ومن خلال إنجاز أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية تروي بطولاتهم، وتجعل هذا التاريخ قريبا ومحبوبا إلى جيل اليوم، الذي أصبح، للأسف، يجهل ماضيه. ونحن في الجزائر مقصّرون في هذا المجال كثيرا! ولليوم ننتظر إنجاز فيلم عن الشهيد زيغود يوسف ورفقائه الأبطال؛ مثل ديدوش مراد ولخضر بن طوبال وعمار بن عودة وغيرهم. كما أدعو السلطات إلى تكريم كل المجاهدين الذين يمثلون “بركة البلاد”، ومتخوف على الجزائر إذا ما رحلوا؛ ربي يعطيهم الصحة والعافية.

لماذا لا تسلّمنا، اليوم، البحرية الفرنسية قائمة الشهداء الذين كانوا على ظهر السفينة يوم 20 أوت 55؟

ماذا عن كتابات الطرف الآخر عن تاريخ 20 أوت؟

❊❊ للأسف الشديد أن الطرف الآخر كتب أكثر منا عن هذا التاريخ، ومن ذلك ما كتبه المؤرخان الفرنسيان بنجمان ستورا وموسكوبو. وتميزت هذه الكتابات بالمعلومات والدقة، ولذلك وجب علينا أن نوثق ونكتب نحن عن تاريخنا. وأتعجب من سبب هذا الغياب! فمثلا لا يوجد كتاب عن الشهيد البطل ديدوش مراد، الذي كان أصغر قادة الثورة، وأكثرهم ثقافة، وأولهم سقوطا في ميدان الشرف سنة 1955. ورغم ذلك لا أثر يُذكر عنه! والحقيقة أن جهودنا لم تكن مكتملة. وكما عرّفت الجامعة الجزائرية بالمتنبي وغيره فمن واجبها التعريف برموزنا ورجالنا، منهم، مثلا، البطل عبد المجيد كحل الراس، ومحمد بن صدوق الذي لايزال حيا يُرزق بمدينة البليدة، وهو الذي قتل بن شكال، والكثير ممن نستهم الذاكرة ويستحقون التكريم.