حمّامات المدينة القديمة بعنابة

خزائن للذاكرة وروائع الزمن الجميل

خزائن للذاكرة وروائع الزمن الجميل
  • 143
 سميرة عوام سميرة عوام

تُعد المدينة القديمة بعنابة، واحدة من أبرز المناطق التاريخية في الجزائر، حيث لاتزال تحتفظ في أحشائها بكنوز معمارية وتراثية، تعكس هوية حضارية ضاربة في القدم. ومن بين هذه المعالم البارزة تبرز الحمّامات التقليدية كجزء لا يتجزأ من النسيج العمراني والثقافي للمدينة. ومن أشهرها حمّام بن سالم، وحمام شقليبة. وهما معلَمان تاريخيان وجماليان، يعكسان روح المدينة القديمة، ويشكلان وجهة سياحية وتراثية هامة لكل من يزور عنابة، باحثا عن عبق التاريخ، ودفء المعمار الأصيل.

يقع حمّام شقليبة في موقع مميز داخل المدينة القديمة، بالقرب من معلم دار السرايا، وهو ما يعزز من قيمته التاريخية؛ باعتباره جزءاً من قلب الحاضرة العتيقة. أما حمّام بن سالم فيتوزع ضمن النسيج العمراني الكثيف للمدينة القديمة، حيث الأزقة الضيقة، والممرات الحجرية المتعرجة التي تحيط به، وتُضفي على الموقع جوا من السكينة والعراقة. ولا يعكس هذا التموقع الاستراتيجي وسط المدينة القديمة، البعد الجغرافي للحمامات فقط، بل يُبرز أيضا، الدور الحضاري الذي كانت تلعبه في الحياة اليومية لسكان عنابة في مختلف الفترات، خاصة العهد العثماني، الذي ترك بصماته الواضحة على المعمار المحلي.

معمار تقليدي يحمل روح الشرق والغرب

يتميّز حمام شقليبة بعمارة أصيلة تزاوج بين الطابع العثماني والأندلسي، وهو ما يتجلى في الزخارف الجدارية، والأقواس المعمارية، والأسقف المقبّبة التي تميّز فضاءاته الداخلية. ومن أبرز عناصره الرمزية العبارة المنقوشة على مدخله:

«لا غالب إلا الله"، وهي ليست فقط تعبيراً دينيا أو زخرفيا، بل تُعد شاهدا على التأثير الأندلسي في ثقافة ومعمار المدينة، وربطا روحيا بين الإنسان والمكان.

ويستند تصميم الحمّام إلى التقسيم الثلاثي الكلاسيكي المعروف في الحمامات الإسلامية التقليدية: البراني (غرفة الاستقبال وتبديل الملابس)، والوسطاني (منطقة دافئة للتهيئة)، والداخلي (الغرفة الساخنة)، وهي بنية وظيفية ومعمارية، تتيح تدرُّج الحرارة والراحة داخل الحمام. 

كما تحتوي الأسقف ذات القباب الصغيرة، على فتحات زجاجية، تسمح بمرور الضوء الطبيعي، ما يمنح المكان إضاءة ناعمة، ويعزز من جماليته الداخلية.

أما حمّام بن سالم، فهو أحد النماذج التي تجمع بين البساطة والخصوصية. ويبرز من خلال استخدامه الحجر المحلي في البناء، ما يمنحه ملمسا بصريا دافئا، وطابعا تراثيا ينسجم مع محيطه العمراني. وتتميّز الفضاءات الداخلية بتنظيم دقيق، يعكس مهارة الحرفيين الذين قاموا ببنائه، حيث تظهر ملامح الذوق التقليدي في توزيع المساحات، وزخرفة الجدران، وحتى في طريقة تصريف المياه، واستخدام المواد الطبيعية.

قيمة سياحية وتراثية مضافة

لا تقتصر أهمية هذين الحمّامين على الجانب المعماري فقط، بل تتعداه إلى كونهما معلَمين سياحيين وتراثيين يرويان قصة المدينة القديمة، ويقدمان مشهدا حيا عن الحياة الحضرية في فترات تاريخية مختلفة. كما يشكلان نقاط جذب للزوار والمهتمين بالتراث، بما يقدمانه من صورة متكاملة عن نمط العيش، والعمران التقليدي في عنابة.

وتُعد زيارة هذين الحمّامين بمثابة رحلة في الزمن، تتيح للزائر التعرف على تفاصيل الحياة القديمة، من خلال التفاعل مع الفراغات التي كانت تحتضن يوما ما، حكايات الناس، وتفاصيلهم اليومية؛ فهما لا يشكلان فقط جزءاً من ذاكرة المكان، بل نافذتين تطلان على أسلوب حياة، وبيئة عمرانية وإنسانية ماتزال تحظى بالتقدير والاهتمام.

دور الجمعيات في الحفاظ على الذاكرة

تعمل جمعية "المدينة" للحفاظ على تراث ولاية عنابة... وغيرها من الجمعيات النشطة في الميدان، على توثيق هذا التراث المعماري، وتثمينه، من خلال التوعية بأهميته، وتنظيم جولات ميدانية، ومعارض صور، وفعاليات تهدف إلى التعريف بقيمة هذه المعالم، حيث تؤكد مثل هذه المبادرات أن حماية التراث ليست مهمة المؤسسات فقط، بل هي مسؤولية جماعية، يتقاسمها المواطن والمجتمع المدني، والدولة.

ويُعد الحفاظ على هذه الحمامات في حد ذاته، حفاظا على ذاكرة عنابة القديمة، بكل ما تحمله من دلالات حضارية، وثقافية، وإنسانية. فبين الحجر العتيق والقبة المقبّبة والزخارف الشرقية، يكمن تاريخ مدينةٍ عريقة، ترفض أن تُنسى.

نحو تثمينٍ أكبر لهذا التراث

في ظل التحولات العمرانية والتوسع الحضري الذي تعرفه عنابة، يُصبح من الضروري التفكير في طرق حقيقية وعملية لتثمين هذه الحمامات، كمعالم سياحية وتراثية قادرة على لعب دور في التنشيط السياحي المحلي. فترميمها، وتأهيل محيطها، وتوثيق تاريخها، ونشر ثقافتها، كلها خطوات كفيلة بتحويل هذه الكنوز المعمارية إلى مراكز جذب ثقافي وسياحي مستديم. كما يمكن إدماجها في المسارات السياحية والثقافية للمدينة، لتكون جزءاً من تجربة متكاملة، يتعرف فيها الزائر على المدينة القديمة، من خلال أزقتها، ومساجدها، وبيوتها التقليدية، وحماماتها ذات القيمة الرمزية الكبيرة.

إن حمامات المدينة القديمة بعنابة ليست مجرد مبانٍ من حجارة، بل هي خزائن ذاكرة مفتوحة، ومرايا صامتة لحضارة ماتزال تنبض بالحياة. فزيارتها ليست فقط استكشافا لجمال المعمار، بل اقتراب من روح المكان، ومن جوهر مدينةٍ استطاعت أن تحتفظ بهويتها رغم تعاقب الأزمنة.