تلقَّب بـ"بوابة الصحراء" و"عاصمة الواحات"

بسكرة.. الأمن الغذائي يبدأ من هنا

بسكرة.. الأمن الغذائي يبدأ من هنا
  • 222
إستطلاع: نور الدين العابد إستطلاع: نور الدين العابد

تُلقب ولاية بسكرة بـ"بوابة الصحراء" و"عاصمة الواحات"، فهي ليست مجرد مدينة صحراوية تقليدية، بل قطب فلاحي بامتياز، يمدّ الأسواق الوطنية بالتمور عالية الجودة، والخضروات المبكرة، وحتى بعض المنتجات الموجهة للتصدير. تتميز بمناخها الحار الجاف صيفا، وتربتها الخصبة، ووفرة مياهها الجوفية. واستطاعت بسكرة أن تتحول إلى مختبر للابتكار الزراعي، وفضاء للاستثمار، حيث تشكل الزراعة العمود الفقري لاقتصادها المحلي، الذي يمد السوق الوطنية بأجود المنتجات. 

تغطي المساحة الفلاحية في الولاية أكثر من 1.6 مليون هكتار، منها ما يقارب 185 ألف هكتار صالحة للزراعة. وتُستغل في إنتاج التمور، والخضروات، والفواكه، إضافة إلى الثروة الحيوانية. هذا التنوع جعل منها إحدى الولايات الاستراتيجية التي تساهم في ضمان الأمن الغذائي للجزائر.

التمور ذهبُ الصحراء

تُعد النخلة رمزا لهوية بسكرة الفلاحية، فالولاية تضم ما يزيد عن أربعة ملايين نخلة، منها حوالي ثلاثة ملايين منتجة، تتوزع خصوصاً بمنطقة طولقة وسيدي عقبة والزاب الغربي. وتبقى "دقلة نور" نجمة هذه الثروة، إذ يقدّر عدد نخيلها بأكثر من مليون ونصف مليون نخلة منتجة، تنتج سنويا مئات آلاف الأطنان من التمور الموجهة للاستهلاك المحلي والتصدير...

"دقلة نور" ليست مجرد ثمرة، بل علامة تجارية عالمية، جعلت اسم بسكرة يتردد في أسواق أوروبا، وآسيا، وأمريكا الشمالية. 

ويؤكد فلاحون محليون أن جودة التمور مرتبطة بعوامل طبيعية خاصة بالمنطقة: نقاء الجو، وشدة الحرارة، ونوعية المياه الجوفية.  

وخلال السنوات الأخيرة ساهمت الجمعيات المهنية والجهات الرسمية في دعم عمليات فرز وتوضيب التمور عبر إنشاء وحدات تعبئة وتبريد، غير أن التحدي الأكبر يظل في رفع نسبة التصدير، التي لاتزال دون الإمكانيات الحقيقية للولاية.

الخضروات المبكرة والزراعة المحمية

لا تقتصر فلاحة بسكرة على التمور فقط، بل تمتد إلى الزراعة المحمية التي حولت الولاية إلى "سلة خضر" للجزائر. 

وتنتشر آلاف البيوت البلاستيكية عبر البلديات، خاصة في لوطاية، وبوشقرون، ومزيرعة، وأورلال فوغالة، ولغروس وغيرها؛حيث تُزرع الطماطم، والفلفل، والخيار والكوسة.

وتقدَّر المساحات المخصصة للزراعات المحمية بأكثر من 6 آلاف هكتار. وتنتج ما يزيد عن 7 ملايين قنطار من الخضر سنويا، ما يغطي حاجيات 35 ولاية أخرى.

الفلاحون يستغلون فارق المناخ لإنتاج خضر "مبكرة" تصل الأسواق الوطنية في عز الشتاء، فتشكل بديلاً عن الاستيراد. غير أن هذه الزراعات تواجه تحديات مرتبطة بارتفاع أسعار المدخلات (البذور، والبلاستيك، والأسمدة)، إضافة إلى صعوبة الحصول على الكهرباء الزراعية، وانخفاض مستوى الدعم التقني.

الثروة الحيوانية

جانب آخر مهم من فلاحة بسكرة هو تربية الماشية، إذ تضم الولاية أكثر من مليون رأس غنم، أشهرها سلالة "أولاد جلال" التي تُعرف بجودتها في إنتاج اللحوم الحمراء، وقدرتها على التكيف مع المناخ الجاف. هذه السلالة باتت علامة وطنية، إذ تُسوَّق في مختلف الأسواق الجزائرية، بل بدأت تحظى باهتمام دولي. 

وإلى جانب الأغنام هناك تربية الأبقار لإنتاج الحليب، والدواجن لتلبية حاجيات السوق المحلية. ويُراهن الفلاحون على تطوير الصناعات التحويلية المرتبطة بهذه الأنشطة، مثل وحدات الحليب واللحوم، لإضفاء قيمة مضافة حقيقية.

البنية التحتية والتخزين والتسويق

خلال السنوات الأخيرة، استفاد القطاع من مشاريع هامة في مجال التخزين، منها تشييد 8 صوامع للحبوب سعتها 400 ألف قنطار، إضافة إلى منح آلاف الرخص لحفر الآبار في إطار توسيع المساحات المسقية، غير أن تسويق المنتجات الفلاحية مازال يمثل معضلة للفلاحين، حيث تكثر الوساطة في أسواق الجملة، ما يُقلص من أرباح المنتجين، ويرفع الأسعار للمستهلك. 

وتطالب الجمعيات الفلاحية بإنشاء تعاونيات قوية، قادرة على جمع المحاصيل، وتوزيعها بطرق منظمة، إلى جانب فتح قنوات تصدير مباشرة.

برامج دعم الشباب والامتياز الفلاحي

من أبرز محاور السياسة الفلاحية في بسكرة دعم الشباب، وتشجيعهم على دخول عالم الزراعة، فقد استفاد مئات الشباب من برامج الامتياز الفلاحي التي تُمكنهم من استغلال أراضٍ صحراوية شاسعة، خاصة ببلديات الدوسن، وزريبة الوادي، وبوشقرون، وليشانة، والحاجب ومناطق أخرى.

كما تُوفر أجهزة "أنساج" و"كناك" قروضا مصغرة لاقتناء معدات حديثة مثل مضخات، وأنظمة ري بالتقطير، وحتى جرارات صغيرة. 

بعض هؤلاء الشباب استطاع أن يحقق نجاحا باهرا في ظرف وجيز، بفضل تكوينات قصيرة في مجال تسيير المشاريع، وتقنيات الزراعة الحديثة.

السلطات المحلية تؤكد أن استقرار الشباب في الريف عبر مشاريع فلاحية مستدامة، يساهم في خلق الثروة، ويحد من البطالة. كما يعزز الأمن الغذائي الوطني.

قصص نجاح محلية... من الحلم إلى التصدير

في طولقة شاب ثلاثيني يُدعى "يوسف" ، استثمر في مزرعة نخيل ورثها عن والده. وبفضل التكوين في مركز البحث العلمي ببسكرة، طوّر أساليب مكافحة الآفات، وأنشأ وحدة صغيرة لتوضيب التمور. اليوم يصدر يوسف منتجاته إلى فرنسا وكندا، رافعا شعار: "التمر الجزائري سفير بلادنا".

شابة مهندسة زراعية في شتمة، أطلقت مشروعا للزراعة المائية، ولإنتاج الخس، والفراولة في البيوت البلاستيكية. مشروعها جذب اهتمام مستثمرين خواص، وفتح آفاق للتصدير نحو أسواق خليجية. هذه النماذج تعكس إرادة الجيل الجديد في تجاوز الفلاحة التقليدية، واعتماد الابتكار والتكنولوجيا كوسيلة للنجاح.

التحديات تواجه الفلاحة

رغم النجاحات الكبيرة يواجه القطاع الفلاحي ببسكرة عدة تحديات؛ منها ندرة المياه، وارتفاع تكاليف استخراجها من الطبقات الجوفية، وارتفاع أسعار المدخلات المستوردة مثل البذور والأسمدة، إضافة إلى ضعف شبكات التسويق والتصدير، وغياب علامات تجارية قوية لمنتجات المنطقة، وكذا نقص اليد العاملة المؤهلة في بعض الفترات، وتأثير التغيرات المناخية على المحاصيل الزراعية، علما أن الفلاحين يؤكدون أن معالجة تلك التحديات تتطلب رؤية وطنية متكاملة، تدعم الإنتاج المحلي وتوفر تسهيلات حقيقية للتصدير.

الفرص والآفاق المستقبلية

رغم التحديات تبقى الآفاق مشرقة؛ فبسكرة قادرة على أن تصبح قطبا إقليميا وعالميا في مجال التمور والخضروات. وتطوير الصناعات التحويلية (عصائر، خل التمر، مشتقات النواة) سيوفر قيمة مضافة، وفرص عمل جديدة. كما إن إدماج التكنولوجيا الحديثة (الزراعة الذكية، الطائرات المسيّرة، المراقبة بالأقمار الصناعية) يفتح أبوابا واسعة لرفع المردودية وترشيد الموارد المائية. وبفضل شراكات دولية مع دول مثل فيتنام وإيطاليا يجري نقل خبرات جديدة إلى المزارعين المحليين، وبالتأكيد فإن الاستثمار في قطاع الفلاحة ببسكرة لم يعد مجرد خيار، بل ضرورة استراتيجية للاقتصاد الوطني.

بسكرة قطب فلاحي استراتيجي

فلاحة بسكرة اليوم قصة نجاح جزائرية بامتياز، تجمع بين أصالة الواحات وحداثة البيوت البلاستيكية، إنها ولاية تشكل مثالاً حياً على قدرة الإنسان على ترويض الصحراء، وتحويلها إلى بساتين غنّاءة. الطريق مازال طويلاً أمام تجاوز العراقيل وتحويل الإمكانات إلى إنجازات. لكن عاصمة الزيبان بثرواتها الطبيعية والبشرية، مؤهلة لتكون قطبا فلاحيا عالمياً، يحمل اسم الجزائر عالياً في أسواق الغذاء الدولية.