مشهد يومي على الطريق الوطني رقم "90 أ" بغليزان
الذبح العشوائي بين إغراء الأسعار وانعكاساته الصحية

- 209

تنتشر، على طول الطريق الوطني رقم "90 أ"، الرابط بين الحمادنة (غليزان) وولاية مستغانم، مرورا بسيدي خطاب، عشرات المحلات الصغيرة، على شكل أكواخ، لا تتعدى مساحتها أربعة أمتار مربعة، تحولت إلى نقاط ذبح عشوائي وعرض للحوم، في ظروف لا تمت بصلة بشروط الصحة البيطرية. وهي ظاهرة آخذة في التوسع، تُغري المستهلك بأسعارها التنافسية، لكنها في المقابل، تُهدد مباشرة الصحة العمومية، وتضع السلطات أمام امتحان حقيقي.
يسارع أصحاب هذه المحلات، الذين يتجاوز عددهم الثلاثين، على طول الطريق الوطني رقم "90أ"، منذ الساعات الأولى من الصباح، إلى مباشرة عمليات الذبح أمام محلاتهم، وسط غياب تام لأماكن مهيأة، أو قنوات صرف المياه الملوثة، أو حتى مساحات نظيفة. فالدماء تختلط بالأوساخ، والحشرات تملأ المكان، والذبيحة تُسلخ في العراء، لتُعلَّق بعد دقائق على واجهة المحل معروضة للبيع، في سيناريو يتكرر على مدار اليوم، ولا يبدأ إلا بعد بيع الذبيحة السابقة.
ويتوقف الزبائن من المسافرين عبر الطريق المذكور، إلى جانب سكان المناطق المجاورة، مع مواطنين من عاصمة الولاية غليزان، بدافع انخفاض الأسعار مقارنة بالقصابات النظامية، حيث يُباع اللحم بين 150 إلى 400 دينار للكيلوغرام، فيما تُعرض الأحشاء جملة ودون تنظيف. أما الكبد والقلب، فتباع بالوزن بأسعار أقل رمزية من الأسواق الحضرية، وسعيد الحظ من يحصل على الكبد.
تحايل وغياب المعايير الصحية
خلال جولة "المساء" بعين المكان، لوحظ أن أغلب أصحاب المحلات لا يحترمون القوانين المنظمة للذبح، فلا تكاد تميز بين الكبش والنعجة أو بين الصغيرة والولود، ولا مراعاة مواسم المنع. كما تؤكد الأحاديث بين المواطنين، أن العديد من مربي المواشي، يلجؤون إلى استعمال مواد كيميائية مع الأعلاف، لتسريع تسمين الأضحية قبل عرضها للذبح.
ورغم كل هذه المخاطر، يصر الكثير من الزبائن على اقتناء هذه اللحوم، مبررين بأن اللحم "طازج ورخيص"، بل إن بعضهم يرد على المخاوف بالقول: "كلوا مما ذكر اسم الله عليه"، في تجاهل تام لانعدام شروط النظافة والتبريد، خاصة أن درجات الحرارة في المنطقة قد تتجاوز 45 درجة صيفا، ما يزيد من سرعة فساد اللحوم.
تدخل ميداني وحجز لحوم فاسدة
يحدث كل هذا، مع نزول لجنة مختلطة من أعوان التجارة والدرك الوطني، مرفقين بطبيب بيطري، حيث أسفرت العملية عن حجز 103 كلغ من لحوم الأبقار، و6.3 كلغ من لحوم الأغنام، تبين بعد المعاينة، أنها غير صالحة للاستهلاك البشري، ما استدعى إتلافها على الفور، فيما استُدعي أصحاب المحلات المخالفين، لاستكمال الإجراءات القانونية. ورغم هذه التدخلات الدورية، إلا أن هذه الظاهرة ما تزال قائمة، وهو ما يعكس محدودية الحملات الرقابية في القضاء على مثل هذه الأسواق الموازية.
ظاهرة تتجاوز غليزان
ما يجري على الطريق الوطني رقم "90 أ" ليس استثناءً، بل صورة لظاهرة الذبح العشوائي التي تنتشر في عدة ولايات، خاصة الريفية وشبه الحضرية، حيث تحدثت تقارير رسمية لوزارتي التجارة والفلاحة، عن أطنان من اللحوم الفاسدة التي تُحجز سنويا عبر الوطن، وهو ما يوضح حجم هذه الظاهرة وخطورتها على الأمن الغذائي.
خطر صحي داهم
وبدورهم، يحذر الأطباء البيطريون، من أن الذبح خارج المذابح النظامية يشكل تهديدا مباشرا للصحة العمومية، إذ يغيب الفحص البيطري للذبائح، وتُفتقد بذلك اللحوم لشروط الحفظ والنقل والتبريد، وقد يحمل بعضها أمراضا حيوانية أو بكتيريا خطيرة، مثل "السالمونيلا" و"الإيكولاي"، التي يمكن أن تنتقل بسهولة إلى المستهلك، وتسبب له تسمما غذائيا أو أمراضا مزمنة.
بين الرزق اليومي والوعي الصحي
يبرر أصحاب هذه المحلات، نشاطهم بالحاجة إلى كسب الرزق، في ظل غياب فرص العمل، معتبرين أن أسعارهم المنخفضة تجذب الزبائن وتوفر لهم لحوما "طازجة". أما المستهلكون، فغالبيتهم يفضلون السعر المنخفض على حساب الجودة، وهو ما يجعل الظاهرة في حالة توسع مستمر. لكن هذا التهاون، كما يحذر المختصون، قد يقود إلى أزمة صحية حقيقية، إذا لم تُتخذ الإجراءات المناسبة بشكل عاجل.
حلول مطلوبة بشكل مستعجل
يرى الخبراء، أن معالجة هذه الظاهرة، تتطلب خطة متكاملة، تشمل تشديد الرقابة القانونية وفرض عقوبات رادعة، وتكثيف حملات التوعية للمستهلكين بخطورة شراء اللحوم من مصادر مجهولة، ناهيك عن ضرورة دعم المذابح البلدية وتجهيزها بوسائل حديثة، لتشجيع القصابات النظامية، وتعزيز التنسيق بين المصالح البيطرية والتجارية والأمنية، ورصد الظاهرة مبكرا.
لم تعد ظاهرة الذبح العشوائي، على الطريق الوطني رقم "90 أ"، مجرد نشاط غير منظم، بل تحولت إلى سوق موازية تُغري المواطن بأسعارها، لكنها تهدد صحته بشكل مباشر. وبين باعة يسعون وراء الربح، وزبائن يغامرون بصحتهم، وسلطات تكافح بوسائل محدودة لكبح هذا النشاط غير القانوني، يبقى الخطر قائما، ويبقى التدخل الفوري والصارم وحده قادر على وضع حد لهذه الممارسات، قبل أن تتحول إلى أزمة صحية وطنية.