"عـين القطارة"
أسطورة الماء والبحر في صيف عنابة

- 169

تتدفق مياه "عين القطارة" الصافية بين الصخور البحرية، فتنساب على شكل خيوط فضية تحت أشعة الشمس الصيفية، حاملة معها عبق الأساطير القديمة، وسحر البحر في قلب عنابة. هذا المنبع الذي يُعد من أقدم العيون المائية في المدينة، ليس مجرد مصدر للماء، بل هو ذاكرة حية، تنبض بالحكايات الشعبية، والطقوس القديمة، والخيال الممتد عبر الأجيال، ليظل جزءاً من روح صيف المدينة، وروائح البحر، والحنّاء.
كان النسوة قديماً يزرن عين القطارة في طقوس مليئة بالإيمان والبركة، حيث يقدمن الحنّاء ليخضبن حجارة المنبع؛ اعتقاداً منهن أن هذا الفعل يجلب النجاح، ويرفع الحظوظ، ويبرك حياتهن اليومية. كما كنّ يحملن من مياهها العذبة؛ فالعازبة تشربها أملاً في الزواج، والمتزوجة تأخذ منها للذرية، لتصبح مياه العين جسوراً سرية بين رغبات القلب وبركة الطبيعة، وروح الأسطورة التي تنسج بين الصخور والأمواج. وقد كان المكان مساحة للرجاء والبركة، حيث يتلاقى الإنسان بالماء والسماء والبحر؛ في تناغم ساحر.
ففي مطلع النهار الصيفي تصطف النساء على حواف العين، يحملن قدوراً وأوانيَ، ويغمسن الحنّاء في الماء، ويضعنها على صخور المنبع، فتتلوَّن الأسطح الرمادية بألوان حمراء برّاقة، تتوهج تحت أشعة الشمس الذهبية، بينما يعلو صوت الأمواج المتموجة في الخلفية، يختلط بصوت الضحكات والهمسات والأماني الموجهة إلى الماء. هي طقوس بسيطة لكنها محمّلة بروحانية كبيرة، فالنساء اللواتي يمسحن حجارة العين لا يقتصرن على التبرك، بل كنّ يستحضرن القوة الداخلية والأمل في مستقبل مشرق، ضمن معتقدات ترتبط بالماء وبركة الأرض والسماء.
ووفق الرواية الأولى، كانت مدينة عنابة في زمن غابر، تعاني من الجفاف والقحط. حينها ظهرت امرأة صالحة زاهدة تُعرف باسم "لالة قطارة"، دعا إليها الناس طلباً للشفاعة والتوسل، فاستجاب الله دعاءها، فانفجرت العين من بين الصخور، لتصب مياهها العذبة في البحر، وتروي عطش الناس والحياة من حولهم. ولم يكن لهذه المعجزة مرجع زمني محدد، لكنها بقيت شاهدة على الصبر، والإيمان، وقوة الدعاء. وحُفظ اسم "لالة قطارة" في ذاكرة سكان عنابة كرمز للخير والبركة.
أما الرواية الثانية فتغلف العين بطابع أسطوري ساحر، إذ تتحدث عن جنية بحرية تُدعى "قطارة" ابنة مارد ملك البحر، شبيهة بالأخوات الثلاث حوريات البحر: عين السلطان، وعين عشير، ولالة رحيلة. وتظهر الجنية عند غروب الشمس، على شكل حورية ساحرة على الصخور البحرية قرب رأس الحمرة، وتتراقص أشعتها الذهبية على خيوط الماء، لتبقى هناك حتى فجر الصباح، قبل أن تعود إلى أعماق البحر، محتفظة بسحرها وغموضها. هذا الوصف يضفي على العين بعداً روحانياً وجمالياً، يجعلها مكاناً يلتقي فيه الواقع بالطيف، والماء بالأسطورة، والزمان بالماضي السحري. وكانت "عين القطارة" خلال القرن الماضي، مركزاً للعديد من الطقوس الشعبية، حيث كان بعض الأهالي يقدمون القرابين؛ اعتقاداً منهم أنها تطرد النحس، وترفع البلاء، وتحقق طلباتهم اليومية المتعلقة بالحياة، والزواج، والرزق. وكان الأطفال يراقبون هذه الطقوس بفضول، فيما تشرح النساء الأكبر سناً للأجيال الجديدة، كيفية التعامل مع المكان بحذر واحترام، لأن العين لم تكن مجرد ماء، بل كانت روحاً تحرسها الأساطير والأماني.
وفي أيام الصيف، يتدفق الزوار إلى "عين القطارة"، ليستمتعوا بالمشهد الطبيعي الساحر، حيث تمتزج مياه البحر الزرقاء العميقة مع مياه العين الصافية العذبة، وتشكل لوحة طبيعية تتلألأ تحت أشعة الشمس. ويمتد الزائر على الصخور الملساء، يستمع إلى خرير الماء، وصوت الريح الذي يحرك الأغصان القريبة. ويشم رائحة الملح والطحالب البحرية، فيما تتخلل الأشعة الذهبية للمساء، خطوط الماء والصدف، فتخلق شعوراً بالسكينة والغموض؛ وكأن المكان يحكي حكاياته بصمت لكل من يمر به. كما يلاحَظ أن "عين القطارة" ليست مجرد عين ماء؛ فهي أسطورة تتنفس صيف عنابة، وتحكي عن قوة الدعاء، وسحر البحر، وعن المرأة الزاهدة التي أصبحت رمزاً للخير، وعن الجنيات البحرية اللاتي يحرسن المكان بصمت، وعن النسوة اللواتي يحملن الحنّاء والماء في طقوسهن، لتظل العين شاهدة على تاريخ المدينة، وجمال فصل الصيف، وعلاقة الإنسان بالماء، والطبيعة، والأسطورة؛ إنها لوحة حية يلتقي فيها الماضي بالحاضر، والخيال بالواقع، والطبيعة بالروح، فتظل "عين القطارة" رمزاً خالداً لسحر عنابة في الصيف، وكأن الزمن نفسه توقف للحظة، ليكشف لنا عظمة الطبيعة، والبركة، والبحر.
ومع مرور الزمن، يظل المنبع مكاناً يبعث في النفوس الراحة والأمل، فهو ليس مجرد مياهٍ تتدفق من بين الصخور، بل رائحة الماضي، وهمس الأساطير، وضوء الشمس الذي يلمع على قطرات الماء، وذكريات الأجيال التي جلبت الحناء والبركة إلى الصخور. ففي صيف عنابة يصبح المكان ملاذاً حقيقياً لكل من يبحث عن السلام الداخلي، وعن الوصال مع الطبيعة، وعن لمسة من السحر الذي يمتد بين الواقع والأسطورة، بين البحر والسماء، وبين الماء والحناء.