في الذكــرى الـ79 لـتـدشــيـنـها

‘’دار الحديث" بتلمسان... رمز تاريخي تحدّى الاستعمار

‘’دار الحديث" بتلمسان... رمز تاريخي  تحدّى الاستعمار
  • القراءات: 4282
 ل. عـبد الـحليم ل. عـبد الـحليم

تسترجع تلمسان هذه الأيام الذكرى الـ79 لتدشين "دار الحديث"، هـذا الرمز التاريخي الذي يقع وسط المدينة، والذي توارثه العلماء التلمسانيون بهدف التشييد العلمي، حيث ركز مشيدوها على أن تكون صرحا ليسطع منها نور المعرفة والعلم، فوثيقة "دار الحديث" التي تشير إلى أهل عهدها آية من آيات القانون الحديث القديم ورواية الإيمان والحزم والحفاظ على الثقافة الأصلية.

كان افتتاح «دار الحديث» في الحقبة الاستعمارية عزيمة إثبات الشخصية العربية المسلمة للشعب بأكمله في مدينة تلمسان، والتي فقدت وقتها القسم الأكبر من سكانها الذين أصبحوا يشكلون أقلية ضمن مجموعة من الأجانب الذين اشتغلوا بثروات ضواحيها، من مساكن وبساتين وحقول، وهذا ما استنفر رجال الحركة الإصلاحية السلفية، وعلى رأسهم الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ البشير الإبراهيمي، خاصة أن الاستعمار الفرنسي سلط بكل ما يملك من محو الهوية والقضاء على الشخصية وآثار كيانها. 

أثناء المؤتمر السنوي العام لجمعية العلماء المسلمين المنعقد بالعاصمة سنة 1937 الموافق لـ 1356 هـ، الذي حضره أكثر من خمسة آلاف من أعضاء الجمعية وأنصارها، والذين خاطبهم السيد البشير الإبراهيمي بحديث عـذب وقيم قائلا فيهم: «إن لي أمانة أود أن أقدمها إلى أهلها، وهي أن إخوانكم التلمسانيين يسلمون عليكم ويتمنون أن يكون فتح هذا المعلم الديني على يد العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس زعـيم النهضة ورئيس الجمعية».

ابن باديس أخرج من جيبه 500 فرنك إعانة رمزية عقب تدشينها و«دار الحديث» افتتحها الإمام عبد الحميد بن باديس، وهو يردد: «بسم الله الرحمن الرحيم، على اسم العروبة والعلم والفضيلة أفتح مدرسة دار الحديث، ربنا أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين، ربنا أدخلنا مدخل صدق واخرجنا مخرج صدق واجعل لنا من لدنك سلطانا نصيرا، جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا»، ثم قام بفتح الباب ودخل وكان خلفه العلماء والضيوف والمدعوون وبقيت جموع غفيرة لم تتمكن من الدخول، أطل عليهم من الشرفة رفقة العلماء قائلا: «يا أبناء تلمسان كانت عليكم أمانة من تاريخنا، فأديتموها فنعم الأمناء وجزاكم الله خيرا والسلام عليكم». وبعدها دخل الحضور إلى قاعة المحاضرات، حيث قدمت هذه كلمات للعلماء الأجلاء، إن الشهادات التي منحتها جمعية العلماء المسلمين لخرجي دار الحديث كدليل على قيمتها العلمية وما نلمسه من الميدان من خلال هؤلاء الذين درسوا بها، وبعد انتهائه أخرج الشيخ والإمام عبد الحميد بن باديس من جيبه 500 فرنك إعانة رمزية لـ«الدار»، ثم تبارى الناس في التبرع بما لديهم بسخاء وكرم نادرين وشاركت النساء بحليهن وجواهرهن. وحسب الإحصائيات الإجمالية لأول شهادة رسمية منحتها جمعية العلماء المسلمين لخريجي دار الحديث مست 35 ناجحا، مثل عددهم الثلث من المجموع العام على المستوى الوطني وأكثر من النصف بالنسبة لعمالة مدارس قسنطينة التي حققت 52 ناجحا و51 بعمالة وهران وعمالة الجزائر بـ20 ناجحا، أي ما مجموعه 123 متخرجا عام 1952.  

‘’دار الـحديــث» بـيـن الأمــس والــيــوم

مرت «دار الحديث» بمراحل طيلة وجودها، بدءا بأمر غلقها، أصدره الوالي العام الفرنسي بعد ثلاثة أشهر من فتحها، وقد تحدى الشيخ البشير السلطات الفرنسيّة ورفض التّوقيع على محضر الأمر بغلق المدرسة، وكان جزاؤه إثر ذلك أن قدّم إلى المحاكمة وقضي عليه بغرامة ماليّة، وانتهاء بغلق أبوابها في وجوه الطلبة إبان الثورة التحريرية من عام 1956م إلى 1962م، واتّخذها العسكر الفرنساوي وقتئذ ثكنة له، وكانت فرصته في الاستيلاء على أرشيف المدرسة، حيث لم يبق منه الآن أثر يذكر، وزجت بمؤسسها البشير الإبراهيمي في السجن فيما التحق طلبتها بالجبال للمشاركة في الثورة التحريرية، والتي استشهد منهم 80 تلميذا مجاهدا في سبيل العلم والوطن، فأعيد فتحها غداة الاستقلال واستمر نهج أثرها على طريقة العلامتين «ابن باديس والإبراهيمي»، وبعـد الاستقلال لم تعد المدرسة إلى نشاطها المعهود، كما كانت عليه في زمن الشّيخ البشير. وظلَت على تلك الحال من الرّكود والجمود، حتّى انتعشت من جديد – نسبيّا – بتأسيس معاهد التّعليم الأصليّ في عهد مولود قاسم، رحمه الله، وزير التّعليم الأصلي والشؤون الدينية، لكن سرعان ما ألغي نظام ذلك التّعليم واستبدل بالتّعليم العامّ المعروف الآن، وهي الآن في الوقت الحاضر تخصّصت في التعليم التحضيري تضم نحو 300 إلى 450 تلميذ، يؤطّرهم 10 من المعلمّات ومدير قائم عليها، يدفع التّلاميذ مبلغا سنويا يتم دفعه على شكل رواتب للمعلمات، إلى جانب تدريس أحكام التلاوة للنساء وتقديم دروس لمحو الأمية لفائدة أكثر من 100 امرأة، إلى جانب شعائر تعبدية وبالمدرسة مسجد تقام فيه الصّلوات الخمس وصلاة الجمعة، وبها مكتبة متواضعة يؤمّها بعض الدّارسين للمطالعة ومراجعة الدّروس، وفيها حجرة مطلّة على الشارع العام كانت مكتبا للشّيخ، يزاول فيها أشغاله العلمية والإدارية، وفي المدة الأخيرة استفادت المدرسة من دعم مالي لإعادة ترميم ما هـو آيل للزوال والسقوط.