بعدما ساهمت في ازدهار الحضارة الإسلامية

مهنة تجليد الكتب تتلاشي لتأخذ الطباعة محلها..

مهنة تجليد الكتب تتلاشي لتأخذ الطباعة محلها..
  • 2026
 نور الهدى بوطيبة نور الهدى بوطيبة

يعد التجليد من المهن القديمة التي مارسها الرجال منذ سنوات بعيدة في تغليف الكتب ذات الطابع الكلاسيكي الجميل والأصيل بالجلد الخالص، حرفة كانت العديد من العائلات تسترزق منها وتعتبرها حرفة تنتقل بين الأجيال، إلا أنها اليوم بدأت تختفي تدريجيا وتفقد بريقها في ظل التطور الذي مس هذا المجال، بسبب آلات الطباعة التي تلعب دور الإنسان.

كان ممتهن التجليد سابقا يستعين بآلات جد بسيطة لعملية الوصل أو القص أو التلصيق، النقش والحفر وكذا الطباعة، يدويا، بفضل تقنيات سلسة ومتسلسلة، بخطوات دقيقة يتبعها صاحبها ليجعل من الكتاب تحفة فنية، وقد كان العرب قديما حارصين على تعليمها، إذ كانت هناك مدارس مختصة تدرس تلك الفنون، وتعتبرها إرثا حضاريا، جمالها كان سببا في جعلها زينة لرفوف المكتبات، كما يستمتع بحملها القارئ لمطالعتها.

«لا نحكم على محتوى الكتاب من غلافه» مقولة عالمية شهيرة استهل بها عبد النور بوخريشة، حرفي في التجليد، حديثه عن المهنة، وهو من القلائل الذين بقوا أوفياء لها، استقبلنا داخل دكانه البسيط بحي ديدوش مراد، مساحة فارغة، كان الفراغ قد أخذ محل الآلات، قائلا بأن اليوم وللأسف الشديد، أصبح للمقولة وجه واحد، بمعنى لا تحكم على محتوى كتاب من غلافه غير الجميل، في حين كان قديما للمقولة معنيين، أي لا تحكم على الكتاب على أنه جيد لأن غلافه جيد وعكس ذلك. مؤكدا أن الكتاب يظل كتابا له مكانة مرموقة حتى وإن كان دون غلاف، لكن ذلك الجمال «الشكلي» أصبح يفقده تدريجيا، وأضاف بوخريشة: «عرف التجليد في وقت سابق انتعاشا كبيرا اشتهر آنذاك المسلمون بالرّيادة في صناعة الكتاب المخطوط وكان للخطاطين مكانة مرموقة في المجتمع، فمهنتهم كانت تتميز بالأصالة يرونها مهنة شريفة نظرا لمنزلة الكتاب الذي يعتبر رمز العلم والمعرفة والثقافة مما كان يميز العرب، إذ ازدهرت الحضارة الإسلامية بفضل إيلائها اهتماما خاصا بالآداب والفنون، في الوقت الذي كانت حضارات أخرى لم تولد بعد.

وفي الجزائر، يقول محدثنا تشبثت قله قليلة جدا بهذه المهنة، نظرا لقلة الطلب عليها، مما أدى إلى اختفاء محلات كثيرة كانت منتشرة عبر أكبر ولايات الوطن كالعاصمة، قسنطينة، تلمسان، المدية، بجاية، الشلف وغيرها من الولايات الأخرى، التي اختف فيها من سنة لأخرى ممارسي هذه المهنة، وبقي دور الكتاب نفسه لم يتغير في نقل المعرفة وإثرائها وانتشارها، إلا أنه تخلى على جماله وتجرد من غلافه الأصيل.

وقد كانت هذه الحرفة تتميز باستعمال المواد الراقية، كالجلد، والخيط الذهبي، يضيف الحرفي، إذ يتم الاهتمام بتغليف الكتاب بمراحل متتالية، أولها اختيار لون الجلد المستعمل وتثبيته على الكتاب بوصل صفحاته بطريقة جد متينة تضمن بقاءه على حاله لسنوات طويلة، وكان الوصل يتم بغراء خاص ويعزز بالخيط، وفي الأخير يطبع على الكتاب عنوانه ومؤلفه باللون الذهبي أو بالأسود أو يكتفي الحرفي بطبع العنوان بالاستعانة بنقاش حفار ساخن حتى يبقى النقش ثابت على الجلد..

وأشار السيد عبد النور إلى أن تلك القلة القليلة من المحلات التي بقيت في العاصمة والتي تعد على أصابع اليد، لم تعد تعتمد ذلك الأسلوب، لارتفاع سعر المواد الأولية كالجلد وعزوف الزبون على تقبل سعر الكتاب، وكذا لاختفاء تلك الآلة البسيطة كآلة النقش والحفر والتذهيب والتزيين بالزخارف، وأصبح الحرفي يحاول إبقاء مهنته بالاعتماد على آلات أخرى لا تعطي نفس النتائج المرضية، إلا أنها أقل تكاليف وتقترب من الطرق التقليدية.

وأشار المتحدث إلى أنه من مؤشرات اهتمام العرب وتطورهم في هذا المجال، العناية الكبيرة التي كانوا يولونها للخط العربي والخطاطين الذين كان يعتمد عليهم لنقش العنوان بمخطوطات عربية بعد الانتهاء من تغليف الكتاب، وكان لكل مختص ختمه الخاص الذي يوضع على ظهر الكتاب، وهو بمثابة البصمة التي يعرف من خلالها هوية المغلف وتضمن حقوقه، مثل أسماء دور النشر حاليا.. مضيفا أن كل ذلك الإبداع أزاحته التكنولوجيا وكذا  تطور صناعة المداد والورق والأغلفة الورقية والأخرى البلاستيكية وأحيانا الورق المرسكل.

وفي الأخير، قال المتحدث بأن فئة قليلة لا تزال تقبل على هذه الحرفة، بهدف ترقيع الكتاب ويمس ذلك المصاحف وبعض الكتب القديمة التي يحاول الفرد استرجاعها بعدما تآكلت، لأن بقاءها على ذلك الحال سوف يجعله يساهم في فقدان الكتاب كليا.