صنع في الجزائر

من وسم انتماء إلى علامة فخر وثقة

من وسم انتماء إلى علامة فخر وثقة
  • 308
نور الهدى بوطيبة نور الهدى بوطيبة

يشهد السوق الجزائري، تحولا غير مسبوق في علاقة المواطن بمنتجه المحلي، خلال السنوات القليلة الأخيرة، حيث ارتفعت جودة السلع المصنعة محليا بشكل لافت، وتنوعت لتنافس بقوة نظيرتها المستوردة، ولم يعد المواطن يبحث فقط عن المنتج الأجنبي، بل بات يختار المحلي عن قناعة، مدفوعا بتحسن النوعية، وتطور التصميم، واستقرار الأسعار، في ظل سياسة الدولة الرامية إلى تقليص الاعتماد على الخارج وتشجيع الإنتاج الوطني، والتي تم انتهاجها قبل فترة، في إطار ضمان توازن في ميزان المدفوعات وتحقيق استقلالية ذاتية، تعتمد أساسا على المنتج المحلي، لاسيما المنتجات الغذائية والسلع ذات الاستهلاك الواسع، أدى خلالها إلى تغير نظرة الجزائري إلى منتجاته الوطنية، التي لم تعد شعار صنع جزائري مجرد وسم على عبوة، بل علامة ثقة، تثير فخر واعتزاز، وتحظى بالإقبال من الجمهور الواسع.

ما يحدث اليوم في السوق الجزائرية، لم يعد مجرد تطور ظرفي، بل هو ثورة اقتصادية هادئة، تعيد تشكيل العلاقة بين المواطن ومنتجه الوطني، فنشهد اليوم، على اعتزاز وافتخار لانتماء منتجات معروضة في السوق ذات إنتاج محلي مائة بالمائة، تارة شكولاطة وتارة حلويات، وأخرى معجنات، أو حتى مثلجات، هواتف ذكية واجهزة كهرومنزلية، و حتى دراجات نارية وغيرها من المنتجات التي بات البائع يكشف انها محلية بكل اعتزاز، ليقبل عليها المستهلك بدوره بكل فخر، فقد ولت تلك الصورة النمطية التي كانت تلاحق الصناعة المحلية، وها هي اليوم تستبدل بمشهد مغاير تماما، رفوف مكتظة بمنتجات جزائرية الصنع، تغري العين بالجودة، وتقنع المستهلك بالثقة، وتنازع نظيرها الأجنبي على حصة السوق، لتصبح الكثير منها بدائل مثالية وفعالة عن المنتجات الأجنبية، التي أثبت المستهلك وفاء لها لسنوات طويلة، لكن بحثا عن توليفة صحيحة بين الجودة والسعر، لم يجد تحقيق ذلك، إلا في منتجه "الجزائري"، واقع بلغ صداه دولا أجنبية، التي تصدرت فيها بعض المنتجات قائمة منتجات أكثر مبيعا، أمام سلع منافسة ذات تاريخ أقدم منها.

واقع اقتصادي يتغير.. وسوق ينبض بالحياة

مع تبني الدولة سياسات اقتصادية جديدة، تقضي بتقليص فاتورة الاستيراد، وإعطاء الأولوية للإنتاج المحلي، بدأت الشركات الجزائرية، صغيرة كانت أم كبيرة، تعيد النظر في معايير الجودة والتنوع والإبداع، من خلال رفع الضريبة على المنتجات الأجنبية، تسهيل إقامة المشاريع، وتنظيم معارض وصالونات، للتعريف بالمنتج المحلي، وغيرها من السياسات والنتيجة؟ تنوع لافت في المنتجات المحلية، من المواد الغذائية إلى الأجهزة الإلكترونية، ومن الملابس إلى مواد البناء، كلها تحمل وسم "صنع في الجزائر" بكل فخر.

في جولة بسيطة داخل أحد مراكز التسوق بالعاصمة، يلمح الزائر كيف تغيرت تفضيلات المواطن، منتجات الألبان، العصائر، الشكولاطة، مواد التنظيف، مواد التجميل والعناية ،العطور، الماكياج، وحتى الهواتف الذكية، باتت جزائرية الصنع وتلاقي إقبالا كبيرا، وهذا لم يأت من فراغ، بل نتيجة لإرادة سياسية قوية، وثقة المصنع الجزائري في قدراته، وكذا نتيجة مباشرة لتحسن نوعي في عمليات التصنيع، وتزايد الوعي بأهمية دعم المنتوج الوطني، الذي تحول من التقليد في الصناعة إلى التميز والخروج عن المألوف، كتحرر يثبت الثقة أن الجودة ليست حكرا على دولة معينة، أو لها تاريخ قديم في التصنيع، كل هذا خلق قصة إنتاج وطني نهض من الظل، ليقف في صدارة التفضيل الشعبي.

الوقت قد حان لتتحمل الصناعة الوطنية مسؤوليتها...

حول هذا الموضوع، حدثنا الأستاذ ياسين مزياني، أستاذ جامعي في الاقتصاد الكلي، بجامعة الجزائر، فأوضح أن التحول الحالي في السوق الجزائرية، يعد نموذجا لما يمكن أن تفعله السياسات الذكية، عندما تتقاطع مع طموحات الشباب المنتج، حيث أوضح أن قرار غلق الاستيراد التي انتهجتها الدولة كسياسة لوقف نزيف ميزان المدفوعات قبل سنوات، لم يكن مجرد إجراء حمائي، بل كان رسالة للفاعلين الاقتصاديين، أن الوقت قد حان لتتحمل الصناعة الوطنية مسؤوليتها، والخروج من زمن الاتكال على البضاعة الأجنبية إلى زمن النهضة الصناعية، وتحقيق الاستقلالية الاقتصادية وبناء جسور الثقة بين المستهلك والمنتج، وهو ما حدث بالفعل."

وأضاف الأستاذ؛ نحن نشهد اليوم ولادة ثقافة استهلاك جديدة، فلم تعد ترى المنتج المحلي كخيار اضطراري، بل كخيار أول، الثقة في المنتج المحلي عادت، بل وزادت، بعد أن أثبت نفسه في ميادين كانت حكرا على الأجنبي، وبات الكشف عن هوية المنتج على أنه محلي، فخرا كبيرا للكثيرين".

مستهلك جديد.. ووعي يتجدد

الأمر اللافت ليس فقط تحسن جودة المنتج، يقول الخبير الاقتصادي، بل تحول ذوق المستهلك نفسه، فاليوم، لا يبحث المواطن عن أرخص سلعة فقط، بل عن الأنسب من حيث الجودة، السعر، والخدمة بعد البيع، وخاصة على ثبات نوعية المنتج وبقائها على حالها في حالة جودتها العالية، وتحسينها ما إذا احتاجت لذلك دون تراجعها ، ما جعل المنتجين المحليين يرفعون سقف المنافسة، ويهتمون بأدق التفاصيل التي كانت تهمل سابقا، لتصبح تلك المنتجات اليوم، لا تعرض فقط في رفوف محلات وأسواق جزائرية، بل كسرت الحدود وباتت تعرض بأسواق أجنبية أوروبية وأمريكية، يقبل عليها الجزائري والأجنبي على السواء.

أوضح الأستاذ، أن تلك العلامات التجارية الجزائرية اليوم، أصبحت تملك حضورا قويا على منصات التواصل الاجتماعي، وتشارك بفاعلية في المعارض الدولية، وتصدر منتجاتها إلى الخارج، ما يؤكد أن الجزائر لم تعد تستهلك فقط، بل تنتج وتصدر وتنافس.

صناعة ثقة.. لا صناعة منتج فقط

في هذا الصدد، قال ياسين مزياني، إن الثقة لا تشترى أبدا، بل تبنى، ويبدو أن المصنع الجزائري قد فهم هذه المعادلة جيدا، والدليل لم تعد السوق الوطنية تعيش على منتجات مستوردة، بل بدأت تصدر تجربة اقتصادية ملهمة، حيث تظهر الأرقام الرسمية تراجعا لافتا في حجم الواردات، مقابل صعود تدريجي للصادرات غير النفطية، وهو مؤشر يبشر بأن ما يجري ليس تحول مؤقت، بل مسار اقتصادي استراتيجي طويل الأمد، وهذا كله بفضل سياسة حكومية واثقة، وكذا وعي ودعم المستهلك المحلي الذي بعد إعجابه وقناعته بمنتجه المحلي، أصبح المروج غير المباشر له محليا ودوليا.