الفاصولياء والعدس يعلنان قدوم الشتاء
من طعام البسطاء الى رمزية التقاليد الجزائرية
- 253
نور الهدى بوطيبة
تترجم كثير من ربات البيوت مع قدوم أولى قطرات الشتاء وأولى نسمات البرد، تلك الأجواء بتقاليد محددة في الطبخ، تعود من خلالها الى نظام وصفات طالما طبعت الأجواء الشتوية؛ على غرار تحضير الفاصولياء، والعدس، والشوربة، وحتى البركوكس، وغيرها من الأطباق الشتوية التي تمنح دفءا خاصا، وتساعد المرأة في تبنّي نظام يتماشى مع قصر الأيام في هذا الوقت من السنة.
ومع أول نسمات البرد التي تزحف تدريجيا، تبدأ رائحة الأكلات التقليدية تتسلل من نوافذ البيوت، معلنة حلول الشتاء. ففي هذا الفصل لا شيء يضاهي دفء صحن "لوبياء" أو "عدس" يُطهى على نار هادئة، ورائحة الكسرة وخبز الدار وهي تطهى على الطاجين بجانب القدر. إنها عادات متوارَثة، تحفظها الأمهات، وتنتظرها العائلات بشوق في كل موسم برد.
فموعد الأكل في الشتاء بالجزائر ليس مجرد أطباق ووسيلة للشبع، بل هو دفء اجتماعي، وذاكرة جماعية. كل طبق يحمل معه حكاية من الماضي، ومذاقا من البساطة التي تجمع القلوب حول المائدة؛ فلا يهم أن تكون أطباق من لحوم وشحوم، بل تكفي أحيانا أن تحمل ذاكرة وحنينا للماضي، لتكون غنية بنكهاتها ولذتها التي تتنافس، اليوم، سيدات البيوت في تحضيرها، والتي بعد أن كانت تبحث عن إعطائها لمسة جديدة، ها هي اليوم من جديد تبحث عن ذلك الذوق الأصيل والقديم الذي كانت عليه، تحت شعار "على طريقة الجدات".
أطباق الشتاء.. من طعام الفقراء إلى رمز للتقاليد
قديما، كانت أكلات مثل اللوبياء والعدس والحمص تُعرف بأنها أكلات الفقراء ومحدودي الحال؛ لأنها تعتمد على مواد بسيطة ومتوفرة في كل منزل. حيث كانت تلك البقوليات خاصة من الأغذية التي تخزنها الأمهات لأشهر عدة، لكن اليوم تغيرت الحال، وأسعار هذه البقوليات لم تعد كما كانت، وصار إعدادها مكلفا نوعا ما مع ارتفاع سعرها من جهة، وخاصة مع ارتفاع أسعار الخضر واللحم من جهة أخرى. ولكن بالرغم من كل ذلك لاتزال تلك الأكلات حاضرة بقوة في المطبخ الجزائري؛ لأنها تجمع بين السهولة والقيمة الغذائية العالية والطعم اللذيذ. وتدفئة الجسم أمر مضمون، ومفروغ منه.
وحول هذا الموضوع حدثنا مصطفى بن يامين، شيف، ومتعهد طعام، قائلا: "إن تقاليد الأكل في الجزائر تختلف من موسم لآخر، حسب ما تعطيه الطبيعة في تلك المواسم. ففي فصل الصيف تعمد النسوة إلى كل ما هو مقلي ومحضَّر من خضار صيفية كالبصل والطماطم والفلفل بأنواعه وألوانه، والباذنجان وغيرها من الخضار. وتحضيراتها سهلة وبسيطة، عادة مقليات وسلطات باردة، تمنح انتعاشا في حرارة الموسم، لكن بالمقابل تعتمد النسوة خلال الشتاء على أكلات أكثر تغذية، ساخنة تمنح دفءا للجسم، كالشوربة والحريرة، والعدس، واللوبياء، والبركوكس والمعكرونة وغيرها، وهي لم تعد أكلات طبق عيّنة من المجتمع " . ويضيف: "بل هي عادةً أطباق ترسم حنين جميع المجتمع؛ فكل طفل عاش في صغره قديما على تلك الأطباق، ويحنّ اليوم إليها حتى وإن كان غنيا".
وقال بن يامين إن طبق اللوبيا مثلا، لا يحتاج أكثر من قليل من الزيت، والبصل، والثوم، والطماطم، وبعض التوابل، لكنه يقدَّم كوجبة غنية، ومشبعة، خاصة إذا رافقته كسرة أو خبز محضر بالبيت بالطريقة التقليدية. فالجميع يتفقون على لذة ذلك الطبق. وأكد أنه مع أولى نسمات البرد تتحمس النسوة في تحضير تلك الوجبات، ليس لسهولة تحضيرها وإنما سهولة التفكير فيها، موضحا أن المرأة عادة أو أي محضّر أكل أصعب مرحلة في الطبخ تكون عند اختيار الطبق، وتوفير حاجياته، لكن تلك الأطباق التقليدية لها كلاسيكية، ولا تتطلب مقادير كثيرة، تكون عادة متوفرة في كل بيت؛ فلا تحتاج لكريمات وأجبان أو توابل غريبة أو غير ذلك. وأكد أن كثيرا من الأمهات يشعرن بنوع من الحماس مع بداية موسم البرد، فيبدأن في تحضير أطباق الشتاء؛ وكأنها احتفال صغير داخل المطبخ؛ رائحة التوابل والكزبرة والثوم تملأ المكان، والأطفال بالرغم من تعبيرهم عن كرههم الشديد لتلك الأطباق لتفضيلهم الأكلات السريعة، إلا أنك تجدهم عند الموعد، أول من يصطفون على تلك المائدة لإتمام الصحن، وملء البطن، وتدفئة الجسم؛ فلا بديل أحيانا أمام إصرار هؤلاء الأمهات، يؤكد مبتسما.
وأوضح بن يامين أن السر في الأكلات الشعبية الشتوية الجزائرية هو البساطة، فكل طبق فيه حب وتوابل موزونة، لا يتطلب الكثير وليس فيه تكليف، ولا يستدعي مواد باهظة الثمن. فالعدس، مثلا، لذته موزونة مع فائدته؛ فهو بروتين نباتي يمد الجسم بالحديد والطاقة حتى وإن كانت لكل لمستها الخاصة، إلا أن ذوقه المميز يجعل الجميع يتفقون على لذته. وأكد أن المطبخ الجزائري في الشتاء يتحول الى لوحة من الألوان والنكهات، تختلف تلك النكهات من ولاية لأخرى، ومن منطقة لأخرى، لكن بعض الأطباق الشتوية تتفق عليها جميع الولايات؛ فهي أطباق غنية في نكهاتها، وفي فيتاميناتها ومعادنها. وتلتقي فيها البساطة بالدفء، مضيفا: " رغم تغير الزمن وغلاء الأسعار، لاتزال تلك الأطباق تحتل الصدارة في هذا الفصل؛ لأنها تحمل طَعم العائلة، وحنين الأم، ودفء تقاليد الوطن".