احتيال وسرقة دون عنف
من الطلاسم إلى التنويم.. جريمة تتخفّى خلف الخرافة
- 217
نور الهدى بوطيبة
ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي خلال الأسابيع الأخيرة، بسيل من الفيديوهات المأخوذة من كاميرات المراقبة داخل المحلات التجارية، تُظهر أفرادا يقومون بعمليات سرقة واحتيال غريبة؛ لا يستخدمون العنف أو الأسلحة، بل ما يبدو أنّه شعوذة أو طقوس تنويم مغناطيسي. حيث يظهر الضحية وكأنّه مسلوب الإرادة، يسلّم أمواله أو أغراضه الثمينة دون مقاومة تُذكر.
ثم يعود إلى وعيه بعد فوات الأوان، ليسرد حينها تفاصيل أقرب من الخيال. هذه المشاهد التي انتشرت "كالهشيم في النار"، خلقت موجة من الحيرة. وطرحت تساؤلات جوهرية حول حقيقة ما يجري؛ فهل هي خدعة ذكية أم هناك، بالفعل، قوى نفسية أو روحية تُستخدم للإضرار بالناس، والاحتيال عليهم وسرقتهم؟. ولفهم هذه الظاهرة المتداخلة سلّطت "المساء" الضوء على هذه الظاهرة الخطيرة، التي هي في تزايد مقلق.
في زمن باتت فيه السرقة لا تقتصر على الكسر والخلع أو العنف والتهديد، ظهرت موجة جديدة من الاحتيال غامضة وغريبة، يصعب تفسيرها بمنطق العقل وحده. كاميرات المراقبة في المحلات والشوارع التقطت مشاهد لا تصدَّق لأشخاص يدخلون متاجر صغيرة يتحدّثون بكلمات غير مفهومة، يلوّحون بحركات غريبة. وفجأة، تجد صاحب المحل يسلّمهم المال أو المجوهرات؛ وكأنّه في غيبوبة مؤقتة!…ثم يستفيق بعد دقائق لا يدري ما الذي جرى، وكيف كان ضحية شخص لم يسحب أمامه سلاحا، ولم يهدّده لتفريغ خزنة ماله أو كلّ ما يحتويه صندوقه!.
هذه الحوادث التي توثقها كاميرات المراقبة تتكرّر بشكل ّملفت، وتُظهر استعمال أساليب توحي بالشعوذة، والطلاسم، أو حتى التنويم المغناطيسي. وما يبدو للوهلة الأولى مجرّد خدعة أو تمثيل، يتضح عند التمحيص والتدقيق، أنّه يحمل أبعادا نفسية، ودينية، وقانونية معقّدة، تستوجب التوقّف عندها، وتحليلها بشكل موضوعي، وعلمي.
وعن هذا الموضوع حدّثنا المحامي ناصر بعلي، مختصّ في قضايا الجرائم الإلكترونية والاحتيال، قائلا إنّ هذه الأفعال تصنَّف بوضوح تحت بند "الاحتيال باستعمال وسائل غير تقليدية" ؛ حتى وإن لم يُستخدم العنف أو التهديد المباشر، فإنّ التأثير على الضحية وجعلها تتصرّف ضدّ إرادتها، يدخل ضمن المادة الخاصة بالاحتيال والخداع في أغلب التشريعات الجنائية، خاصة إذا توفّرت عناصر الخديعة، والاستيلاء على أموال أو ممتلكات الغير، وهذا ما لا يرحم بخصوصه القانون أبدا حتى وإن بدت القضية غامضة وغير بديهية، إلاّ أنّه مباشرة ما يُفتح التحقيق، ويتم البحث في خلفيات القضية، وتحليلها.
القانون صارم مع هذه القضايا
يؤكّد المحامي أنّ القانون لا يحتاج إلى إثبات وجود شعوذة أو سحر، بل يكفي إثبات أنّ الجاني استعمل وسيلة غير مشروعة للتأثير على وعي الضحية سواء عبر كلام مبهم، أو طلاسم، أو حتى التنويم المغناطيسي. وهو ما يفتح الباب أمام النيابة لتوجيه تهمة الاحتيال المشدّد، التي قد تصل عقوبتها إلى 10 سنوات سجنا أو أكثر، حسب ظروف الجريمة.
ويضيف المتحدّث أنّ هذه الظاهرة التي تبرز بشكل مخيف، تقع تحت طائلة القانون الجنائي الجزائري من ناحيتين أساسيتين؛ النصب والاحتيال من جهة، والشعوذة من جهة أخرى. وقال: "إنّ القانون الجزائري يُجرّم ممارسة الشعوذة والسحر. وينصّ على ذلك صراحة في المادة 66 من قانون العقوبات التي ورد فيها.
ويعاقب بالحبس من سنة إلى خمس سنوات، وبغرامة من 50 ألف دينار إلى 100 ألف دينار، كلّ من ارتكب جريمة الشعوذة، أو التنبؤ بالغيب، أو ممارسة أعمال السحر، سواء بوسائل تقليدية أو حديثة، وهذا سواء باستعمال الطلاسم، أو الزيوت، أو الأعشاب، أو الرموز الغامضة، أو حتى الإيهام بقدرات خارقة تؤثر على الآخرين؛ قصد التأثير في سلوكهم أو خداعهم". ويضيف الأستاذ أنّ المشرّع الجزائري لم يتجاهل الأبعاد النفسية والروحية لهذه الأفعال، بل اعتبر مجرّد ممارسة الشعوذة أمرا مجرّما حتى دون تحقّق الضرر؛ لأنّ في ذلك تهديدا للأمن العام، واستغلالا لضعف الناس، وجهلهم.
الاعتقاد أنّ للساحر قوّةً مطلقة خطأٌ
من جهة أخرى، يؤكّد الشيخ الدكتور فاروق الزواوي، إمام وخطيب وأستاذ في الدراسات الإسلامية، أنّ ما يحدث لا يخرج عن كونه نوعا من الشعوذة المحرّمة شرعا، " لا جدل في ذلك " يقول، والتي يعرفها الإسلام بأنّها استخدام "خدع خفية" ، وقراءة طلاسم أو عبارات مجهولة المعنى لاستحضار "قوى غير مرئية"، يعتقد أنّها تساعد في التأثير على الآخرين. ويوضح: "الشعوذة والسحر مذكوران في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: "يعلِّمون الناس السحر وما أُنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت…".
"لكن من الخطأ الاعتقاد أنّ للساحر قوة مطلقة؛ فالله سبحانه وتعالى قد جعل السحر ابتلاء. وله تأثير نفسي فقط على من يؤمن بحتمية وقوع شرّه؛ أي أنّ من يؤمّن بأنّ هذه الطلاسم تؤثّر فيه، قد يتأثّر، فعلا، عبر الإيحاء، والخوف، خاصة ضعف تحصين النفس، وليس لأنّ الشعوذة تملك قوة حقيقية خارقة". ويضيف الإمام أنّ هذه الأفعال تدخل تحت باب الكبائر في الإسلام. ويُعَد ممارسوها "فسقة" ، يجب محاسبتهم شرعاً وقانوناً، مؤكّدا أنّ الوقاية منها تكون بتحصين النفس بالأذكار والقرآن، خصوصا بسور مثل الفاتحة، والإخلاص، والمعوذتين، وآية الكرسي.
إيحاءات وتاثيرات نفسية..
في الوقت الذي يصعب على العلم تفسير بعض الظواهر الخارقة أو من عالم آخر، يحاول الخبراء تفسير تلك الظواهر بحالات علمية، وتأثيرات نفسية، هذا ما أكّده الدكتور سمير بوضياف، أخصائي في علم النفس العصبي والإدراكي، الذي قال إنّ الظاهرة التي تم تداولها في الفيديوهات المنتشرة مؤخرا والتي يظهر فيها ضحايا يسلّمون أموالهم أو ممتلكاتهم بسهولة لأشخاص يستخدمون كلمات مبهمة أو حركات غريبة، يمكن فهمها من منظور علم النفس على أنها حالات إيحاء نفسي قويّ وليس تنويما مغناطيسيا علميا بالمعنى الدقيق.
فالتنويم المغناطيسي هو حالة من التركيز الذهني العالي، والانفصال الجزئي عن المحيط، يُحدثها المعالج النفسي بموافقة المتلقي. ولا يمكن استخدامها لدفع الشخص إلى القيام بأفعال ضدّ إرادته أو ضدّ قيمه الأخلاقية، تكون بعد عدة حصص من التحضيرات النفسية للشخص الراغب في علاج مشكل معيّن، أو الخروج من صدمة، أو غير ذلك، وأنّ ما يشاع عن أنّ شخصا ما يستطيع تنويم الآخر مغناطيسيا في لحظات وجعله يسلّمه المال دون وعي، هو خرافة سينمائية، لا تستند إلى الواقع العلمي، أو السريري.
وفي المقابل، ما يحدث في الواقع، كما يرى المختص، هو شكل من أشكال الإيحاء النفسي اللحظي، يحدث في ظروف معيّنة مثل إذا كان الضحية يعاني من توتر أو قلق أو شرود ذهني، أو إذا كان الجاني يستخدم أسلوبا خطابيا مشوّشا للتأثير على مشاعر الضحية، أو إذا تم استغلال ظروف للقيام بالفعل؛ كمحل خافت الإضاءة، أو مزدحم، أو فيه ضوضاء. ففي هذه اللحظات "يدخل الضحية في ما نسميه حالة تشويش إدراكي أو "ارتباك ذهني مؤقت"، قد تجعله يتجاوب دون تفكير عقلاني، خاصة إذا رافق ذلك تواصل بصري مباشر، أو تلامس جسدي خفيف. وهذه الحالة لا تدوم أكثر من دقائق معدودة.
وعادة ما يستفيق الشخص منها فجأة بمجرّد اختفاء المؤثر الخارجي؛ أي الشخص الذي مارس الإيحاء. وأكثر من يتعرّضون لهذا النوع من التأثير، هم أشخاص لديهم قابلية إيحاء عالية، وهم، غالبا، أشخاص لديهم ضعف الثقة بالنفس، أو يعانون إرهاقا نفسيا وعقليا، أو حتى لديهم تركيز مشوّش وضعيف"، وعليه يشدّد على ضرورة أخذ الحيطة والحذر عند التعامل مع الشخص الغريب.