عندما تتحول الطوابير إلى فلسفة حياة

لحظات عابرة لتقاسم الهموم والانتظار

لحظات عابرة لتقاسم الهموم والانتظار
  • 143
نور الهدى بوطيبة نور الهدى بوطيبة

في قلب كل مجتمع هناك مشاهد يومية تعكس جزءا من هويته، وتختزل فلسفته في الحياة. وواحدة من هذه المشاهد عندنا والتي لا تُمحى بسهولة، "الطابور" . هذا الصف الطويل الذي أحيانا لا بداية له ولا نهاية والذي يقف فيه الناس ليس فقط انتظارا للحصول على خدمة، بل لحظة يعيشون فيها مشاعر مشتركة تتراوح بين الصبر والضحك والتعليق على ما يحيط بهم، قد يبدو في ظاهره، مشهدا تقليديا عاديا، لكن بين فصوله تتناثر كثير من اللحظات الطريفة التي تصنع الفرح رغم طول الانتظار. في الطابور، تتحول المحادثات العابرة إلى حوارات ساخرة. والوجوه المتوترة تتحول إلى ابتسامات متبادَلة. والغرباء يصبحون رفقاء رحلة مؤقتة في عالم الانتظار.

امام مكتب بريد، عند الطبيب، أمام صيدلية أو مخبزة، بلدية أو إدارة، مشاهد تتكرر بصفة يومية، تخلق جوا من الصبر في انتظار الظفر بالدور للاستفادة من خدمة أو الحصول على سلعة. وهنا يتحول الطابور من وسيلة للحصول على الدور، الى طقس اجتماعي له قواعده، وشخصيته الثابتة. ففور وقوف الناس في الصف تبدأ الحياة الاجتماعية بالتفتح. وفجأة يتحول الصف الى حلقة نقاش سياسي ساخن تارة، وتارة أخرى ساحة نكت وضحك، أو قد ينتهي بمشادة كلامية إذا ما أخذت المنعرج غير المرغوب.

مناقشات أحيانا تجعلك تعتقد أنك أمام خبير في العلاقات الدولية، أو محلل جيوسياسي، وأحيانا أخرى تعتقد أنك أمام مدرب كرة قدم لأكبر فريق في العالم، أو حتى طبيب وجراح، وأحيانا أخرى أمام خبير في الشؤون الدينية، لتبدأ عادة النقاشات الحادة حول مواضيع الساعة، أو آخر الأخبار؛ في تقاليد تكاد تكون راسخة؛ وكأنها مشاهد تتكرر، لا تختلف إلا في اختلاف مكان وزمان الطابور. تلك فترة الانتظار التي تخلق بدورها شخصيات مختلفة بين فيلسوف الطابور الذي يسحب الكلام من المجموعة، أو المتسلل المحترف الذي يحاول تعدي الصف دون أن يكشفه أحد إلى درجة أنه يتصرف كأنه أول من كان هناك، ليأتي الحكم والذي يتولى أو يحاول تنظيم الصف ويوبخ المتسللين، أو حتى ذلك الطريف الذي يحوّل الطابور الى مسرح لسرد النكت، وتخفيف ضغط جو الانتظار..

الغريب في الأمر أن هذه الثقافة يبدو أنها أصبحت متجذرة. فعند الدخول الى إدارة أو مخبزة أو بنك "فارغ"، يبدو لك الجو غير طبيعي، لتتبادر الأسئلة في الرأس: هل أنا في المكان الصحيح؟! فالطابور أصبح معيارا لخدمة طبيعية، وأحيانا معيارا للجودة. وإن كان الطابور طويلا فالخدمة المطلوبة جيدة، وإن لم يكن فربما لا تستحق الانتظار أصلا..  

إنها لحظات ودقائق وحتى أحيانا ساعات.. تنسج خيوط التواصل الاجتماعي على نحو غير رسمي، تجعل من الطابور فرصة للاجتماع رغم ـ ربما ـ اختلافات، وتخلق شعورا بانتماء طريف إلى منظومة واحدة تشترك في صبرها، وابتسامتها؛ حيث يبقى الطابور أكثر من مجرد مكان انتظار؛ إنه مساحة اجتماعية تحمل في طياتها روح الدعابة، والصبر، والتواصل الإنساني الأصيل، الذي يجعل من الانتظار مشهدا لا يُنسى، يحكي قصة شعب لا يفقد حس الفكاهة حتى في أبسط تفاصيل حياته. وفي حديث "المساء" مع عدد من المواطنين من النساء والرجال، أبدوا رأيهم في هذا الواقع. وبالرغم من تعدد الإجابات إلا أنها تقاطعت في روح واحدة. 

وأكد هؤلاء أنها روتين يومي، يتكرر فيه شيء من السخرية، والصبر، والتعايش مع الواقع. حيث أجمع عدد منهم على أنهم اعتادوا الموقف، وأصبح جزءا من البرنامج اليومي الذي لا بد من أخذه بعين الاعتبار وإن كانت الخدمة مثلا، تأخذ خمس دقائق فقط، فانتظار بلوغها قد يتطلب ساعة كاملة، وأحيانا أكثر بكثير. ويضيف آخرون بنبرة مرحة، أن الطوابير تخلق جوا من الصداقة المؤقتة، تُروى حينها قصص مختلفة لا حصر لها، تصل أحيانا الى الحديث عن مشاكل عائلية بأدق تفاصيلها لغريب تماما، فتتنوع الآراء. لكن الإجماع واحد؛ الطوابير أصبحت جزءا من الحياة اليومية. وقد طور المجتمع حولها ثقافة كاملة من التعليقات، والنكات، والمواقف الطريفة، جعلت منها مشهدا لا يخلو من التسلية رغم ما يحمله من تعب.