مساجد البليدة العريقة

قِبلة سياحية لزوّار "الوريدة" في الصيف

قِبلة سياحية  لزوّار "الوريدة" في الصيف
  • 231
رشيدة بلال رشيدة بلال

تستقطب مساجد ولاية البليدة العريقة خلال موسم الصيف، عددا من السيّاح الأجانب خاصة من تركيا، إلى جانب الزوّار من داخل الوطن، الذين لا يفوّتون فرصة الصلاة فيها، والتقاط صور تذكارية، والوقوف على عراقة هذه المباني التي تعود إلى الفترة العثمانية. ورغم تأثّر هذه المساجد ببعض العوامل المناخية التي غيّرت ملامحها، إلاّ أن جهود مديرية الشؤون الدينية وبعض المتطوّعين لاتزال مستمرة للحفاظ على طابعها المعماري القديم؛ حتى تبقى شاهدة على تاريخ الجزائر، وامتداده.

"المساء" كان لها جولة ميدانية بأحد أقدم مساجد ولاية البليدة، ويتعلّق الأمر بالمسجد الحنفي، المعروف أيضا بالمسجد التركي، ومسجد ابن سعدون، حيث سلطت الضوء على بعض الحقائق التاريخية، والدور الذي تلعبه هذه المعالم في إنعاش الفعل السياحي بمدينة الورود.

من قلب المدينة العتيقة.. المسجد "الحنفي"

كانت بداية الزيارة برفقة الشيخ سعيد الرحماني بن يمينة، الإمام المعتمد بمسجد "الكوثر" من المسجد "الحنفي"، أو كما يُعرف بالمسجد التركي؛ نسبة إلى المذهب الحنفي.

ويقع المسجد في قلب مدينة البليدة، وتحديدا داخل السوق الشعبية. وتم تشييده سنة 1164 هجري الموافق لـ1750 ميلادي. 

وأولى الملاحظات المسجّلة تتعلّق بواجهة المسجد الرئيسة من الناحية الغربية، المطلة على شارع "زروق الزعيمي" الذي عُرف سابقًا بـ«المقهى الكبير" . أما الواجهة الشمالية فتطلّ على شارع 17 جوان (الكراغلة سابقا). وتمرّ بنهج "سليمان بوديسة"، فيما تطلّ الواجهة الجنوبية على شارع العيشي عبد الله. والواجهة الشرقية متّصلة ببنايات تعود إلى الفترة الاستعمارية.

وخضعت الواجهة التي تستقبل المصلين، مؤخرا، للترميم من طرف أحد المحسنين، حيث قام بطلائها، وببعض الإصلاحات البسيطة دون المساس بجمالية المسجد المعمارية. 

وعند دخولك إليه تشعر بعراقته، وأصالته؛ إذ يحرص القائمون عليه على الحفاظ على طابعه كما هو باستثناء بعض التغييرات المتعلقة بالفرش أو الطلاء الدوري.

ويتميز المسجد بصغره، حيث لا يتسع إلا لعدد قليل من المصلين، وهو ما فسّره الإمام بن يمينة، بقلة الكثافة السكانية في الماضي، حيث لم تكن المساجد تتّسع إلاّ لبعض المصلين، ما يعكس قلة عدد السكان آنذاك.

منبر ومحراب وقباب.. شواهد على العراقة

من بين ما يشدّ انتباهَ زائر هذا المسجد الأثري، طريقة تصميمه، التي لاتزال شاهدة على عراقة الفترة العثمانية، بدءا من المنبر، والمحراب الخشبي، إلى الأقواس، والقبة التي لم يمسسها التغيير. كذلك الحال مع النوافذ، والزخارف، التي لاتزال مرسومة على جدرانه.

أما سدّة النساء فلاتزال مصمّمة بالطريقة التقليدية القديمة. وتتميّز بصغر حجمها، إذ بالكاد يتمكّن الفرد من الوقوف بسبب انخفاض السقف. وتحيط بها ألواح خشبية مزيّنة تطلّ على المحراب، لم تتغيّر.

كما يحتوي المسجد على مقصورتين صغيرتين؛ الأولى مخصّصة للأذان، بالكاد تتّسع للمؤذن. والثانية للإمام، يُحضّر فيها دروسه وفتاواه، وهي متصلة بسقف المسجد، ما يسمح بالصعود إلى سطحه عبر سلّم دائري ضيّق.

الإرث الحنفي والتجربة السياحية

من الأئمة الذين تداولوا على هذا المسجد يذكر الشيخ بن يمينة اسم الشيخ "السطنبولي"، الذي تولّى الإمامة، وكان يفتي على المذهب الحنفي. 

ولايزال هذا الصرح يؤدي مهامه التعبدية. كما يُعلّم الأطفال القرآن الكريم خلال موسم الصيف بالطريقة التقليدية باستخدام الألواح والمصاحف.

ويُعدّ الطابع التراثي للمسجد من أبرز خصائصه، ما جعله يساهم بشكل كبير في الترويج للفعل السياحي في الولاية، خاصة في فصل الصيف، حيث يتحوّل إلى قِبلة للزوّار من داخل الوطن وخارجه، لا سيما من تركيا، وبنغلاديش، وإيطاليا، وأمريكا، وبعض الدول الإفريقية، ما يعكس البعد التاريخي والديني لهذا النوع من المساجد.

"مسجد ابن سعدون".. معلَم يخبّئه السوق

وجهتنا الثانية كانت إلى مسجد "ابن سعدون"، الذي لا يبعد إلاّ ببضع كيلومترات عن المسجد "الحنفي". ويقع، هو الآخر، داخل السوق الشعبي بالبليدة.

ولعلّ ما يثير الانتباه لحظة الوصول، صعوبة التعرّف على المسجد من الوهلة الأولى، لكونه لا يتوفّر على واجهة واضحة كباقي المساجد، إذ تحاصره المحلات التجارية من كلّ الجهات. وواجهته عبارة عن ثلاثة أبواب تُفتح على ممرات ضيّقة.

الجهة الشمالية للمسجد تطلّ على شارع "بن كالي عمر". والجهة الغربية على شارع 17 جوان (الكراغلة سابقا). أما الجنوبية فعلى شارع الإخوة شويط (عبد الله سابقا)، فيما لا تتضمن الجهة الشرقية أيّ مدخل. ورغم ذلك لايزال محافظا على بابه الخشبي القديم. 

وعند الدخول تبرز لك عراقة تصميمه من خلال الأقواس التي تزيّن جدرانه، واتّساع مساحته مقارنة بالمسجد الحنفي.

ويحمل المسجد اسم صاحبه؛ "ابن سعدون بن بابا علي"، الذي أنشأه في القرن 17م، وكان من أثرياء المنطقة. حيث بنى المسجد، وأحاطه بعشرة دكاكين كانت تُعد "حبوساً" لتغطية حاجيات المسجد، وطلبة الحزب الراتب.

صومعة فريدة وقصة إنسانية

من أبرز ما يميّز مسجد "ابن سعدون" صومعته ذات الشكل المربع، والتي ينفرد بها في ولاية البليدة، ولم تشملها أيّ عملية ترميم منذ تأسيس المسجد.

ويُروى عن ابن سعدون أنّه كان من الأشخاص الطيّبين، إذ كان يجلس على كرسيه في السوق، يوزّع الماء على الزوّار، ويراقب نشاطه التجاري. وعندما يلاحظ قلّة مداخيل بعض المؤجرين لدكاكينه كان يقوم بتخفيض مبلغ الإيجار؛ لمساعدتهم. 

واليوم تم بيع أغلب تلك المحلات، ولم يتبقَ منها سوى محل واحد يشتغل فيه إسكافي، ويدفع مبلغا رمزيا للإيجار.

ووفقا للشيخ بن يمينة، فإنّ مسجد "ابن سعدون" يُعدّ من المساجد التي تحظى باهتمام السيّاح، لا سيما أنّه لايزال محافظا على محرابه ومنبره المالكي التقليدي. ويُنظم فيه حلقات لقراءة القرآن والمذهب المالكي. وتتم فيه الصلاة وفق المرجعية الدينية المالكية، مثل التسليمة الواحدة، والعصا على المنبر، والدعاء بعد الصلاة.

"مسجد الكوثر".. من أطلال إلى منارة روحية

تُختَتم الجولة بمسجد "الكوثر" الذي يشدّ إليه الزوار أيضا رغم كونه حديث البناء. فقد كانت الأرض التي بُني عليها مسجد الكوثر، في الأصل، مسجد "سيدي أحمد الكبير"، الذي دخل من الأندلس إلى وسط مدينة البليدة، وبنى مسجدا صغيرا، كان قِبلة للمصلين. غير أنّ الاستعمار الفرنسي هدّم المسجد، وحوّله إلى كنيسة؛ لطمس الهوية الإسلامية.

وبعد الاستقلال وفي سنة 1974 تم تشييد مسجد "الكوثر" مكان الكنيسة. وتحوّل إلى معلم معماري بارز، خاصة أنّ تصميمه راعى الطابع العربي الإسلامي من حيث الصوامع الأربع، والقباب الخمس، والأقواس والزخارف الإسلامية التي تزينه من الداخل، ليتحوّل، هو الآخر، إلى قِبلة للزوار والسياح من داخل الولاية وخارجها.