المؤرخ محمد غرتيل يروي بطولات فناني الثورة

فرقة "نور البلاد" و"إسياخم"..غصة في حلق المستعمر الفرنسي

فرقة "نور البلاد" و"إسياخم"..غصة في حلق المستعمر الفرنسي
  • القراءات: 1205
أحلام محي الدين أحلام محي الدين

قال المؤرخ محمد غرتيل، إن معظم الفنانين الجزائريين عبروا عن أفكارهم وآرائهم خلال الوجود الاستدماري بالجزائر، فرفعوا من شأن المقاومة والثورة، وأبرزوا قضية الشعب الجزائري بكل روح وحب ووطنية، بقصائدهم وأغانيهم وأناشيدهم الوطنية التي بقت خالدة في ذاكرة الشعب، موضحا بقوله: "فمنهم من كتب قصائد وسجل أغانٍ، ومنهم فنانون مجاهدون انخرطوا في النشاط السياسي، وفي صفوف جيش التحرير الوطني، خاصة بعد تأسيس الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني عام 1958م، تحت قيادة مصطفى كاتب بتونس الشقيقة، حيث تم توجيه نداء لكل الفنانين الجزائريين، من مسرحيين وموسيقيين وغيرهم، للالتحاق بالفرقة".

يواصل المؤرخ قائلا: "لقد لبى النداء الكثير منهم وصار الفنان كالجندي المدني، مهمته التعريف بالقضية الجزائرية عبر العالم، بنشاطاته التي يقوم بها، وقد ساهمت الأعمال السابقة للأدباء الجزائريين في نشر هذا الوعي، على غرار محمد ديب الذي قدم لنا (الدار الكبيرة سنة 1952 والحريق سنة 1954)، وكلها أعمال ساهمت في تكوين الجزائريين و التعريف بمعاناة شعب يكافح ضد الاستدمار، دون أن ننسى محي الدين بشطارزي، الذي ناضل من خلال مسرحياته السياسية والاجتماعية".

فرقة "نور البلاد" نموذج لكفاح من نوع آخر

يضيف المؤرخ محمد غرتيل في نفس السياق: "نحن اليوم نحيي ذكرى اليوم الوطني للفنان، التي تتزامن مع ذكرى اغتيال الشهيد علي معاشي يوم 8 جوان 1958م بمدينة تيارت، وجب علينا الوقوف وقفة إجلال واحترام لكل فناني الجزائر، الذين صدحوا بالحق ووقفوا مع قضية وطنهم ومن هؤلاء نذكر في منطقة غليزان نموذجا (فرقة نور البلاد بغليزان)، التي تأسست سنة 1951، في مقر صغير يقع في شارع معسكر المعروف بـ"فاتح عبد القادر" حاليا، وسط مدينة غليزان، من طرف مجموعة من شباب الكشافة الإسلامية الذين تكونوا وتمرسوا ضمن فوج السلام سنة 1941م، وعرف عنهم رفض الوجود الاستعماري وكل أشكال السياسة الاستيطانية، لينتهجوا أسلوبا راقيا في النضال، عبر الكلمة واللحن والفن والأداء بإتقان ومهارة على آلات موسيقية عصرية".

وقد تشكلت الفرقة من ستة أعضاء، يذكرهم المؤرخ على التوالي: "الشهيد عبد الرحمن بومنجوط يعزف على آلة آكورديو، الشهيد بلحسن بوعبد الله عازف على آلة القيثار، وكان يعمل أيضا حلاقا، الشهيد بلخير امحمد، عازف على آلة الساكسو، الأخوين الشهيد بصغير عدة عازف على آلة الناي والشهيد بصغير عبد القادر، على آلة الكمان، والمجاهد بوكروس محمد، الذي اشتغل خضارا بعد وفاة والده . وقد عمل الأخوان عدة وعابد، في شركة تحميص القهوة (الشاذلية) بمدينة غليزان، والذي كان صاحبها المناضل كازي تاني بلقاسم، من رواد الحركة الوطنية، ومؤسسي الكشافة الإسلامية بغليزان، والذي تأثر به الكثير من أبناء المدينة الذين اشتغلوا عنده، خاصة في النضال والروح الوطنية".

يواصل المؤرخ سرد البطولات بقوله: "أحيت الفرقة الكثير من الحفلات داخل مدينة غليزان وخارجها، وساهمت في بعث الوعي الوطني عبر أغان تندرج في نوعها ضمن الأغنية الوهرانية، مع ميل واضح للفن الشرقي، وإضفاء لمسة محلية بكلمات من الشعر الملحون والأغنية البدوية. سنة 1956، أحيت الفرقة حفلا بلباس العلم الجزائري وسط مدينة غليزان، مما أدى إلى إلقاء القبض عليهم والتحقيق معهم. شاركت الفرقة حفلات الشهيد الفنان علي معاشي منذ سنة 1956، رفقة فرقته الموسيقية التي أسسها منذ سنة 1953، والتي سماها (سفير الطرب)، حيث طافوا مدنا من الغرب الجزائري، كوهران ومستغانم ومعسكر وبلعباس، وقد أدوا معه أشهر أغانيه (يابابور) و(طريق وهران) وكذا (النجمة والهلال). بعد التضييق الذي طال الفرقة من المخابرات والشرطة الفرنسية، انضم كل أفرادها إلى صفوف جيش التحرير الوطني، فتوقف نشاطها الموسيقي سنة 1957م  إلى غاية 1962. وقد استشهد خمسة من أعضاء الفرقة وهم: عدة بصغير، بلحسن بوعبدالله، بلخير امحمد، عبد القادر بصغير، بومنجوط عبدالرحمان".

في 5 جويلية 1962، قامت الفرقة باستعراض جماهري مميز، احتفاءا بفرحة الاستقلال، وفي سنة 1964، خصصت التلفزة الجهوية بوهران، حصة موسيقية للفرقة، وفي سنة 1967، أعادت الفرقة نشاطها بقيادة الموسيقار بريني بوعبد الله، وشاركت فرقة (نور البلاد) في المهرجان الأول الخاص بالموسيقي الجزائرية (FESTIVAL ART LYRIQUE)، كما شاركت الفرقة في الكثير من الحفلات والمناسبات والمهرجانات والأسابيع الثقافية".

الشهيد بومنجوط عبد الرحمن مثال في الدفاع عن الوطن

يعد عضو الفرقة الشهيد بومنجوط عبد الرحمن، من مواليد 6 جانفي 1936م بمدينة وهران، ابن صالح ورشيدي مقدودة، بعد التحاقه بالثورة كفدائي، ضمن خلايا مدينة غليزان منذ جانفي 1957م، حيث شارك في العديد من العمليات الفدائية والتفجيرات، استشهد ـ رحمه الله ـ في 26 فيفري 1959 م، البطل الفنان والمجاهد الحاج محمد بوكروس، عضو فرقة "نور البلاد"، من مواليد 30 سبتمبر 1931م، لعب دورا مهما ضمن الخلايا الفدائية داخل مدينة غليزان، بصفته العقل المهندس لجل العمليات الفدائية، حيث كان مختصا في تركيب القنابل وتفخيخها، ضمن شبكة الشهيد "فاتح عبد القادر" في قسم العمل الفدائي ما بين سنة 1956 - 1957، تحت إشراف القيادة السياسية والعسكرية للمجاهد الكبير واضح بن عطية، بمساعدة المحامي المجاهد امحمد بلعباس، وبعد استشهاد فاتح عبد القادر وكشف الشبكة الفدائية، أصبح عضوا في الشبكة الفدائية، ضمن قسم العمل الفدائي التي تم تجديدها تحت إمرة الشهيد البطل عواد بن جبار (سي صابري)، بأمر من القيادة العسكرية للمنطقة الرابعة من الولاية الخامسة التاريخية، بقيادة العقيد عثمان والشهيد الرائد بن عدة بن عودة (سي زغلول)، لعب المرحوم الحاج محمد بوكروس، دورا بارزا في العمليات الفدائية التي خطط لها الشهيد عواد بن جبار، داخل مدينة غليزان، والتي ألهبتها وأرعبت الكولون، الذي كان يحلم بالجزائر الفرنسية "1957 - 1958".

من أهم العمليات الفدائية التي قام المرحوم بتركيب القنابل المستعملة فيها سنة 1958 نذكر:

القنبلة الموقوتة داخل حقيبة، والتي وضعت داخل بناية بناعيم في شارع محمد خميستي، وقد تم كشفها وإبطال مفعولها.

القنبلة الموقوتة التي وضعت داخل سيارة "إفري قات"، والتي قام المرحوم بتركيبها من قنبلة مسترجعة لطائرة "B26د للقوات الفرنسية، تزن ثلاث قناطير، وضعت بالقرب من السوق المغطاة، واستهدفت مركز جنود "طري طوريال".

عبوة ناسفة وضعت في الجسر الذي يمر عبره قطار الجزائر وهران.

نقل المرحوم بعد اكتشاف شبكة عواد بن جبار، رحمه الله، إلى مقر القيادة الرابعة بشراطة بجبال الونشريس، أين ساهم في التكوين ضمن شبكة الهندسة، وقد اعتقل بعد إصابته في معركة لجيش التحرير، وألقي عليه القبض وصدر في حقه حكم بالإعدام؛ وأطلق سراحه بعد وقف إطلاق النار.

بعد الاستقلال، ابتعد المرحوم بوكروس عن الممارسات السياسية والتجاذبات التي كانت تحدث بين رفاق الجهاد، ليتفرغ لهوايته المفضلة التي اشتهر بها في مدينة غليزان، رفقة عائلته، وهي التصوير، أين أبدع فيه في مجال الرسم والفنون الجميلة.

المجاهد الفنان محمد إسياخم... مبدع حمل قضية وطن

ولد في 17 جوان 1928 بأزفون، في سنة 1931، انتقلت العائلة للعيش في مدينة غليزان، بحكم عمل جده ووالده الذي كان يملك حماما وسط المدينة، وقد قضى إسياخم معظم طفولته فيها، ودرس بمدرسة ساحة المسجد تعليمه الابتدائي، التحق بفوج السلام للكشافة الإسلامية سنة 1941م، أين التقى مع رفاقه الشهيد عواد بن جبار والمجاهد واضح بن عطية والمحامي المجاهد امحمد بلعباس، في سنة 1943م حدث له أمر غير حياته رأسا على عقب، حيث أنه وجد قنبلة يدوية تعود للمخيم العسكري الأمريكي، الذي كان موجودا في نقطة الديك بغليزان، أخذها ليلعب بها في البيت رفقة إخوته، فإذا بها تنفجر عليهم، لتكون الفاجعة أليمة بوفاة أختيه وابن أخته، بينما بقي هو في المستشفى لعامين، بعد أن خسر ذراعه الأيسر.

في المستشفى، كان يقوم بالرسم تحت إشراف الراهبات اللواتي اكتشفن مواهبه الخارقة في هذا الفن، التحق بالمدرسة الحرة لشعبة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بغليزان، أين برع في الرسومات التي كانت تزين مجلة المدرسة، وكذا في تصميم الديكور لفوج المسرح التابع للمدرسة، وقد ركز في طابعه الفني على تمرير رسائل الوطنية والكفاح ضد الاستعمار. التحق سنة 1951 بالجمعية الطلابية لمدرسة الفنون الجميلة في الجزائر، واتبع مسار فنان المصغرات عمر راسم، وبين 1953 و1958، استقر المجاهد محمد إسياخم في باريس، ليشتغل في مدرسة الفنون الجميلة الفرنسية، أين ساهم في دعم الثورة التحريرية وإسماع صداها، خصوصا بباريس، وفي سنة 1959، انتقل إلى ألمانيا الشرقية ليستقر بها إلى غاية الاستقلال، فكان صوت القضية الجزائرية بفنه الراقي ولوحاته الثورية، مثل "الشهداء"، "الأرملة"، " الشمس السوداء"، "القصبة" .

لعل أهم لوحة قدمها محمد إسياخم للثورة كانت سنة 1957 م (إلى أولئك الذين أرادو العبور و بقوا)، وهي لوحة أهداها لهؤلاء الشهداء الذين سقطوا تحت خطي "شال وموريس" المكهربين، بحثا عن الحرية، بعد الاستقلال واصل إسياخم دعم وطنه بفنه، بتصميم العديد من العملات النقدية وأولى الطوابع البريدية، توفي سنة 1985 بعد مرض عضال. أوضح المؤرخ أن شعراء الملحون ساهموا بدورهم في نصرة القضية الجزائرية، مستنكرين في قصائدهم، جرائم الاستدمار الفرنسي في حق الشعب الجزائري، وأحيوا في قلوب الجزائريين ذلك الحس بالانتماء للوطن، نذكر منهم في منطقة غليزان، الشاعر المنور بلفضيل والشاعر الشارف بخيرة. وفي الختام، قال المؤخ غرتيل: "ستبقى الجزائر قبلة للأحرار وولادة للرجال، وسيبقى الأبناء أوفياء للأمانة على خطى الأجداد يصونوها ويحفظونها من كيد الكائدين."