مطاعم تحت المجهر

صناع المحتوى يقلبون موازين "الأكل" في الجزائر

صناع المحتوى يقلبون موازين "الأكل" في الجزائر
  • 294
نور الهدى بوطيبة نور الهدى بوطيبة

تغير خلال السنوات الأخيرة، المشهد الرقمي في الجزائر، تماما وبشكل لم يكن يتوقعه أحد، فبينما كانت منصات التواصل الاجتماعي في البداية، ساحة للترفيه والتفاعل العام وخلق علاقات اجتماعية عبر تلك المواقع، بدأت تشهد بروز جيل جديد من صانعي المحتوى، الذين اختاروا طريقا مختلفا تماما عن السائد في إدارة المشاريع، طرق الطهي، تجربة الأكل، والغوص في تفاصيل المطاعم وأسرارها، هؤلاء الذين، رغم عدم ارتدائهم البدلات الرسمية ولا يملكون صفة قانونية للرقابة، إلا أنهم يحملون هواتف ذكية، حواس تذوق عامة، وجرأة على القول الصريح وإبداء رأيهم والتأثير بالتالي، في قرارات ربما وخيارات زبائن مستقبليين.

لا حديث اليوم في مجموعة عن الأكل والمطاعم والصالونات والمقاهي الجديدة، دون أن يتخلله ذكر لمقطع فيديو جديد، لصانع محتوى جرب مطعما معينا، تذوق "شاورما" هنا، وانتقد "برغر" هناك، وعشق "بيتزا" في مكان آخر، أو استحسن خدمة مطعم سمك في منطقة أخرى..، فيديوهات بعضها يُصنع عادة بعد إعلانات إشهارية وترويجية لبعض تلك المحلات، ليأتي صناع المحتوى، أو المؤثرون، لتعزيز قول هؤلاء أو بالعكس، الكشف عن الستار، وعن حقيقة تلك الصور والفيديوهات التي تنشرها الصفحات الرسمية لتلك المطاعم ومحلات الأكل السريع.

وقد أصبح هؤلاء المؤثرون الجدد بمثابة مرآة رقمية، تنقل للمواطن البسيط ما كان في الماضي حكرا على أذواق فردية وتجارب مغلقة، من خلال كاميرات هواتفهم الذكية، والتي أصبح يستثمر فيها العديدون، حتى يصورون بها أطباقهم التي لم تعد مجرد وسيلة ترفيه، بل تحولت إلى أداة تأثير حقيقي في الرأي العام الغذائي، وخلق ساحة للتعليق إيجابا أو سلبا.

ولأن الجزائر بلد تنبض شوارعه وأزقته الشعبية والراقية على السواء، بالمطاعم والمقاهي ومحلات الأكل السريع، فإن هذه التجارب المصورة، سرعان ما وجدت جمهورا متعطشا، جمهورا يتابع لا ليكتفي بالمشاهدة، بل ليقرر من خلالها وجهته المقبلة لتناول الغداء أو العشاء، فبدل الخوض في تجارب ربما تكون سيئة، أو الدخول في حيرة  الاختيار، يكون البحث وسط هؤلاء المؤثرين وصفحاتهم، للوصول إلى السرد العفوي، وطريقة تقييم الطعم، وجودة التقديم، ونظافة المكان، وحتى حرارة الاستقبال، لحسن اختيار الوجهة، حيث أصبحت عناصر تهم المتابع بقدر ما تهم أصحاب المحلات أنفسهم، ترفع من متطلعات وتوقعات أجواء المطاعم.

وقد أبدى عدد من المواطنين، الذين حدثتهم "المساء"، خلال جولتها الاستطلاعية بشوارع العاصمة، أن ما كان يوما ما أمرا داخليا بين زبون ومحل، شكرا إذا أحب المكان وجدالا أو حتى طأطأة الرأس والخروج دون انتفاضة، حتى إن تم خوض تجربة سيئة؛ طعام سيء أو سوء استقبال أو حتى غياب أدنى أساسيات النظافة وغيرها، أصبح الآن شأنا عاما، بل وبابا مهددا بفتح مجال للنقاش والحوار لمن هب ودب، فكلمة "سيئ" أو "ممتاز" من فم صانع محتوى، كفيلة برفع مطعم إلى الشهرة أو إغراقه في عزلة رقمية، ووفق عدد من الشباب الذين حدثناهم، فإنه لم يعد أصحاب المحلات يستقبلون هذه الكاميرات بنفس اللامبالاة القديمة. على العكس، أصبحوا يتهيؤون لها كما يتهيأ ممثل لدوره المسرحي، أو صاحب مطعم خمس نجوم "لمتدوقي ميشلان" ومجلات الطبخ العالمية بالدول المتقدمة، لتجد أحيانا تنظيف مبالغ فيه، أطباق محضرة بعناية غير معتادة، وابتسامات تكاد تكون مرسومة، لأنهم يعلمون أن دقيقة على "إنستغرام" قد تغير مسارهم التجاري، بل وأن الكثير منهم بات على استعداد دائما لأي زيارة مفاجئة لربما صانع محتوى غير معروف أو شخص يبدو زبونا عفويا، إلا أن الهدف الأساسي ربما إيجاد أدني هفوة لتسليط الضوء عليها وإبرازها للجمهور.

بروز معالم جديدة في المشهد ...

في هذا الصدد، حدثنا أكرم، صاحب محل بالعاصمة، بالقرب من البريد المركزي، وصاحب مقهى عائلي ببلدية الأبيار، الذي أشار إلى أن اليوم، تلك المطاعم تهتم بالخدمة أكثر من قبل، وهذا يعود، حسبه، إلى المنافسة الشديدة في السوق بين تلك المحلات، من جهة، وما تتداوله الصفحات، من جهة أخرى، وأشار إلى أنه قبل أن يتم التخصص في تقييم المطاعم، افتتحت صفحات خاصة بتقييم التجارب بين الجيدة والسيئة، فضاء سمح بتثمين التجارب الجيدة والثناء على أصحاب المحلات أو الخدمات وشكرهم، لكن من جهة أخرى، إبداء الامتعاض والغضب والحديث عن التجارب السيئة التي مر بها هؤلاء، دون التردد في ذكر اسم المحل أو الشركة التي حولت التجربة من ممتعة إلى كابوس.

وأضاف أن هذا ما ساهم وبشكل كبير، في دفع أصحاب المحلات والشركات ومقدمي الخدمات، إلى التفكير مرتين قبل الإساءة للزبون، خوفا عن السمعة، لكن ما عزز تلك الذهنيات، بروز صفحات خاصة وصناع محتوى يعطون تفاصيل التجربة بالصوت والصورة، وتقديمها للجمهور بكبسة زر واحدة، وذكر اسم المحل وتقديم نصيحة لتجربة أو الهروب منه فورا، فلا مجال يتركه هؤلاء للخطأ الذي يمكن أن لا تكون له فرصة للإصلاح.

أضاف المتحدث، أنه لا يمكن حصر الأثر في مجرد تجربة، قد تكون ربما مدفوعة الأجر، مقابل خدمة الترويج، وقال لقد بدأ تأثير هذه الظاهرة يتغلغل في قلب الخدمة نفسها، فالمطاعم التي كانت لا تبالي سابقا بشكاوى الزبائن، أصبحت تقرأ التعليقات وتتابع الفيديوهات، تحاول تحسين النقاط التي انتقدت، وحتى تدفع المال من أجل الإشهار، وتبحث عن التفوق في مجالات لم تكن يوما محل تركيز، حيث أصبح صانعو المحتوى، عن غير قصد أحيانا، لجنة رقابة مجتمعية، لكن من نوع عصري وفعال.

وأكد أن المثير في هذه الظاهرة، ليس فقط في حضورها المتزايد، بل في حجم التفاعل الذي تولده، فالمتابعون لا يكتفون بمشاهدة تجربة الطعام، بل يدخلون في نقاشات حادة أحيانا، من خلال التعليقات والإعجابات، يروون تجاربهم الخاصة، يختلفون حول مدى مصداقية التقييم، بل ويطالبون بصانعي محتوى آخرين لتجربة المكان ذاته وتأكيد أو نفي ما قيل، لقد تحولت تجربة الأكل من فعل فردي إلى ظاهرة جماعية، تشكل آراء وتعدلها ضغوط الجمهور.