حرفة "التطريح" إرث يدويً يأبى الزوال

رغم هيمنة الأفرشة العصرية مطرح الصوف رفيق ملازم للعروس

رغم هيمنة الأفرشة العصرية مطرح الصوف رفيق ملازم للعروس
  • 220
ق. م  ق. م 

تعد مهنة "الطراح" من أقدم المهن التي عرفتها الجزائر، فهي امتداد لثقافة عيش وصناعة فراش مريح من الصوف، كانت تحرص الحرائر على جمعه من "هيدورة الأعياد"، أو شرائه من عند أهل الاختصاص أو الرعاة، بعد جز النعاج، حيث تقوم بغسله وتنظيفه جيدا، ثم تعريضه للشمس، لتجفيفه جيدا، ويصبح جاهزا ليُشكَّل منه "مطرح" أو فرش للنوم أو الاستعمال في قاعة الضيوف، وكانت هذه الأفرشة رمزا للغنى في زمن ليس ببعيد، وكانت رفيقة العروس في الجهاز، إلا أن دخول أفرشة "الأرتوبيديك" العصرية، أزاح المهنة والفرش، ولم تحافظ عليه إلا القليل من العائلات في مناطق مخالفة.


مهنة "الطراح" تختفي وسط هول الحداثة

دفء يرحل من البيوت الجزائرية

في قلب المدن الجزائرية، وعلى جدران البيوت العتيقة، كانت "مطارح الصوف" تقف كرموز لجمال حرفي أصيل، تروي قصة الدفء، الأمان والتقاليد، وكان كل بيت يعبق برائحة الصوف الساخن والمغسول حديثا، وكانت الأفرشة المطرزة يدويا، علامة من علامات الدفء والجمال، فلم تكن الأفرشة من الصوف مجرد أثاث يرمى على الأرض، بل كانت رمزا للحياة نفسها، كانت تعبر عن الانتماء، عن الفرح، وعن الاستعداد لمولود جديد، أو استقبال ضيف كريم، أو تجهيز العروس لبيت الزوجية، ومع ذلك، يقف هذا الإرث اليوم على مشارف الاختفاء، وسط عولمة تجتاح كل تفاصيل حياتنا، فتطوي صفحات الصوف تدريجيا، التي تخلت النساء عن استعماله، تاركا خلفه ذكريات عابرة ومهن تختفي يوما بعد يوم.

كان الصوف، الخام الراقي والمظهر الريفي الفريد بخصائصه الطبيعية المميزة، يوما ما، مادة أساسية في كل بيت، ليس فقط لأنه متين، ولا لأنه يحتفظ بالحرارة شتاء، ويمنح البرودة صيفا، بل لأنه مادة من الأرض، حيث كان الصوف يغزل، ويمشط، ويطرز، وينسج، بأيد خبيرة تعرف أن كل خيط يحمل قيمة، وكل غرزة تحكي قصة، أما "الطراح"، فذلك الحرفي الصبور، كان ساحرا يعيد تشكيل المادة الخام، إلى فرش دافئ يضج بالحياة، يوقف البساط ويزين الوساد، ظلت مهنه لسنوات طويلة تتداول بين الأجداد والأبناء، لكن أين ذهب كل هذا؟ لماذا أصبح الصوف طيفا، والطراح ذكرى، والبيت بلا روح يطغي عليه طابع العصرنة، والأفرشة الاصطناعية من البوليستير، وغيرها من المواد المصنعة من الآلة.

الجواب ليس بسيطًا، بل هو نتيجة تداخل معقد بين تغيرات اقتصادية، اجتماعية وتكنولوجية، فأول ما تغير هو نمط الحياة، وتغير فكر الإنسان، وتوجهه نحو حياة أكثر عملية وأقل شقاء، حتى وإن كان ذلك على حساب الصحة وراحة جسدية، فصارت الحياة سريعة، والطلب على المنتجات الجاهزة الفورية، أضحى أعلى من تقدير الحرفة اليدوية، هذا ما أشار إليه عمر، حرفي قديم مختص في إعادة تغليف الأرائك، ببلدية الحراش، المهنة الأخرى المهددة بالزوال في الجزائر، والتي لجأ إليها بعد أن تراجعت تماما أعماله في تطريح الأفرشة، إذ قال في هذا الشأن: "بات الناس يختارون الأفرشة المصنعة في المصانع الكبرى، المعلبة والمغلفة بالبلاستيك، تلك التي لا تحتاج إلى عناية خاصة، بذريعة أنها صحية أكثر ولا تسبب حساسية، أو بحجة أنها سهلة العناية، لا تتخللها حشرات القش أو العنكبوت المجهري، خاصة في المدن الساحلية، التي تتميز برطوبة عالية وحرارة جو، تكون بذلك تلك الأفرشة بمثابة بؤر للعث الذي يأكل الفراش والملابس، عند سوء العناية بها، بالتالي تجد الأسر نفسها مضطرة إلى التخلي عن تلك الأفرشة، مقابل أخرى صناعية أقل جودة بكثير، لكنها تضمن لهم غياب تلك الحشرات" .

وأضاف أن "الطراح" كان يحتاج إلى أيام، وأحيانا أسابيع، لينتج مطرحة واحدة بكل تفاصيلها، فليس كما يعتقده البعض، أن عمله يقتصر على تطريح أطراف الأفرشة، لتتحول من كومة صوف إلى أفرشة متينة، وإنما عمله كان يتمثل في كل تفاصيل ودقة تلك الأفرشة، وكان حينها الصوف يباع داخل الشاحنات المتجولة بين الأسواق الشعبية، وكان يباع بالميزان في شكل أكوام، كل ذلك اختفى في عصر الإسفنج الصناعي، الذي اجتاح السوق في ظرف قياسي، استهوتها النساء لخفتها وسهولة حملها، لتنظيف ما تحتها، مشيرا إلى أن المقارنة مجحفة، لكنه واقع لا مفر منه في عصرنا هذا، فتلك موجة "الحداثة"، التي حولت الذوق العام من حب الطبيعي، إلى الانبهار بالمستورد، صار الصوف "قديما"، "ثقيلا"، وربما "غير عصري" في نظر الجيل الجديد. 

كما نبه عمر إلى أن ارتفاع سعر الصوف الخام، هو الآخر أدى إلى تراجع الإقبال عن تلك الأفرشة المصنوعة من الصوف، الزرابي، الأفرشة، أو البساط، وغيرها، هذا ما أدى إلى تراجع الإقبال على تلك القطع، بالرغم من جمالها وفرادتها، فمع غياب برامج دعم فعالة، ماتت تلك الحرفة أو جزء منها، ليبقى الجزء المتبقي مهددا بالاختفاء يوما بعد يوم.

نور الهدى بوطيبة


"الغراز" في عنابة

حِرفة تصنع الذاكرة وتتحدى  زمن الأفرشة العصرية

يُطرز "الغراز" أو "الطراح" المطرح بخيوط الصوف، كما يُطرز الذاكرة الجماعية لعنابة، مدينة البحر والتقاليد. لازال هذا الحرفي، الذي يعرفه العنابيون بـ"الغراز"، يحمل مسلته بيدٍ، ويصون بها مهنة الأجداد من الزوال، وسط عالم يتسارع نحو الأفرشة الجاهزة والأنسجة الصناعية...في كل غرزة من المطرح، تتوارى حكاية من الماضي، وفي كل عقدة صوفية تنبعث رائحة البيوت القديمة، الدفء العائلي، وحضور الجدة، وهي تهيئ فراش الضيوف.

في أزقة عنابة وأحيائها الشعبية، تنبض هذه الحِرفة الأصيلة التي قاومت طوفان الحداثة، لتبقى واحدة من الرموز الحية للتراث المحلي، حرفةٌ تتوارثها الأجيال، رغم تراجع الطلب، وتُمارَس بحب وشغف يُحاكي الإبداع اليدوي الخالص.

"الطراح" ليس صانع فراشٍ عادي، بل فنان شعبي، ينسج التراث ويحيك الحنين على هيئة مطارح صوفية تقليدية. فراشه ليس مجرد وسادة للنوم، بل قطعة من الزمن الجميل، تعكس الذوق المحلي، وتحمل طابعًا فنيًا خاصًا، يُعبر عن البساطة والدفء العائلي، ويخلد جماليات الحياة في البيوت العنابية. رغم وفرة الأفرشة الصناعية المستوردة وتنوعها، ظل المطرح التقليدي خيارا مفضلًا في كثير من البيوت، خصوصًا خلال المناسبات والمواسم، حيث لا تزال بعض العائلات تُدرجه ضمن جهاز العروس، أو تعتمد عليه في المجالس الشتوية، التي تطلب الدفء والصوف الطبيعي.

مهنة "الطراح" تمر بمراحل دقيقة، تتطلب مهارة يد، وصبر حرفي، وذوق فني. تبدأ باختيار الصوف وتنظيفه، ثم حشوه في قطعة القماش المعدة مسبقًا. بعدها تأتي المرحلة الأهم: استعمال "المسلة" (إبرة كبيرة الحجم)، التي تُغرز داخل المطرح لتثبيته بخيط سميك، ثم تُستخدم إبرة أصغر لخياطة الحواف بإحكام. وفي المرحلة النهائية، يُثبت الطراح أزرارًا صوفية مغلفة بالقماش، توزع على سطح المطرح بشكل جمالي، يعطيه صلابة وشكلاً مميزًا.

المطرَح ليس مُنتجًا فرديًا فحسب، بل نتيجة عمل جماعي في كثير من الأحيان، حيث تتشارك الأيدي الرجالية والنسوية في صناعة هذه التحفة التقليدية. النساء عادة يُساهمن في إعداد القماش، وتحضير الصوف وتنقيته، بينما يتولى الرجال عمليات الخياطة والتطريح. هذه الروح الجماعية تمنح المطرح بُعدًا إنسانيًا، وتحوله من فراش إلى قصة متكاملة تُحاكي البساطة والتكافل.

ورغم الانكماش الذي تعرفه المهنة، بسبب تراجع الطلب، ظل "الطراح" حاضرًا في الميدان، يتنقل بأدواته البسيطة من بيت إلى آخر، حاملاً خبرته الطويلة في هذا الفن المتجذر. كثيرًا ما تتحول غرف البيوت إلى ورشات مصغرة، تنبعث منها رائحة الصوف، ويتشارك فيها أهل الدار و"الطراح" لحظات دافئة تُعيد تشكيل العلاقة مع التراث. "الطراح" لم يستسلم لموجة "العصرنة"، بل ظل وفيًّا لأصالته، مجددًا في طريقته، ومؤمنًا بأن المطرح التقليدي سيظل يجد مكانه في البيوت، مهما تغيرت الأذواق. صحيح أن البعض يعتبر الصوف مادة "غير صحية" أو مُسببة للحساسية، لكن هذا لم يمنع عددًا متزايدًا من العائلات من العودة إلى المطرح. طلبًا للراحة والحنين، خاصة في فصل الشتاء.

في الأعراس والمناسبات، يعود المطرح إلى الواجهة، بشكله الفخم وألوانه الزاهية، كجزء من طقوس جهاز العروس. فبينما يُنافسه الفراش العصري في الأسواق، إلا أنه لا يستطيع أن يُنافسه في القيمة العاطفية والرمزية. المطرح المحشو بالصوف، والمطرز يدويًا، يظل قطعةً فريدةً، تمثل امتدادًا للذاكرة، وتربط الأجيال الجديدة بجذورها الثقافية.

حرفة التطريح لا تصنع الفراش فقط، بل تُحيي تراثًا شفهيًا ويدويًا. هي مرآةٌ لصبر الحرفي، ومرآةٌ لذوق المدينة، وإحدى العلامات التي تُحافظ على الطابع التقليدي للبيوت العنابية. وهي أيضًا حرفة تُكسب أصحابها كرامةً ومكانةً في المجتمع، كونهم يقدمون منتجًا يحمل الطابع المحلي والروح الأصيلة.

سميرة عوام