بنات الجنوب من فيلا "بولكين"

حين يروي الحَرف أنوثة الأرض وجمال الذاكرة

حين يروي الحَرف أنوثة الأرض وجمال الذاكرة
  • 313
نور الهدى بوطيبة نور الهدى بوطيبة

تكتب الجزائر بعد عشر سنوات، فصلا جديدا في ذاكرة الاحتفاء بالمرأة، عبر مهرجان سنوي يكرّم الإبداع النسوي بكلّ أبعاده، ويمنح المرأة الجزائرية منصة تحكي من خلالها عن الحلم، والتحديات، والصبر، والتحوّل من فكرة إلى مشروع، ومن موهبة إلى حرفة، ومن هوية إلى منتج يحمل عبق الأصالة. في الطبعة العاشرة اتّجهت البوصلة نحو الجنوب الجزائري نحو عمق البلاد؛ حيث تنبع الحكايات من رحم الرمل والنخيل، وتُغزل النجاحات بالخيوط نفسها التي تنسج بها الزرابي، وتطرَّز بها القفاطين، وتعجَن بها الفخاريات تحت شمس تمنراست، وبشار، والوادي، وأدرار.. وغيرها من ولايات جنوب الوطن؛ في تظاهرة بعنوان "قصص النجاح من الجنوب الجزائري"، لتسليط الضوء على مسارات ملهمة لنساء استطعن تحويل الشغف إلى عمل ناجح.

بشعار "الجنوب يضيء بنسائه" التقت في قلب العاصمة، نساء جنوبيات حملن معهن جزءا من الأرض التي أنجبتهن. ومع كلّ واحدة قصة لا تشبه الأخرى، لكنّها تتقاطع جميعها عند نقطة واحدة؛ الإبداع المتجذّر في الثقافة، والمتطلّع نحو المستقبل.

وفي أروقة هذا اللقاء لم يكن الحديث مجرّد كلمات تقال، بل ترجمت الحكايات إلى معروضات حية. وارتفعت أنوال النسيج. وامتلأت الزوايا بالألوان الطبيعية، والزرابي المطرّزة، والمشغولات التي تعبّر عن قرون من الحرفية التي حافظت عليها النساء جيلا بعد جيل. وتنوّعت المجالات بين التصوير الفوتوغرافي، والإعلام، والسياحة، والرسكلة، والنسيج، وفنون أخرى، لتشكّل هذه القصص بانوراما من النجاح النسوي في الجنوب الجزائري.

ما أجمل أن يكون حاضن هذه الأصوات النسائية العذبة، فضاء يحمل، هو الآخر، حكاية أنثى من الماضي!… قصر بُني خصيصا لابنة الداي حسين، ليصبح في زمننا، منصة لتكريم بنات الجنوب من المعاصرات، اللواتي نسجن من الحلم وشاحا من الأمل، في أحضان فيلا "بولكين" العريقة.

"بولكين" .."قصر راحة بنت الداي" 

في قلب بلدية حسين داي العريقة تقف فيلا "بولكين" أو كما يطلق عليها "قصر راحة بنت الداي"، شامخة؛ كشاهد صامت على عبق التاريخ، وعراقة الحكاية. بُني هذا القصر الساحر في أوائل القرن التاسع عشر من قبل الداي حسين، آخر حكّام الجزائر العثمانيين، لابنته لالة نفيسة؛ كهدية غارقة في الرفاه، والحنين. ورغم تقلّبات الزمن لم يتبق اليوم من مساحة القصر الأصلية التي بلغت 12 ألف متر مربع، سوى ما حفظه الوفاء للتراث.

وتحمل جدران فيلا بولكين في طياتها، حكايات العائلات، والأزمنة، والتحوّلات. فمنذ أن تم حجزها بعد الاستعمار الفرنسي واستغلالها لأغراض عسكرية إلى أن آلت ملكيتها لاحقا إلى الصناعي لويس ناربون، الذي أعاد تشكيل القصر بذوق عصري حينها؛ من خلال بناء جناح جديد بالطراز النيو- موريسكي. وما بين عامي 1968 و2023، تنقّلت الفيلا بين وظائف دينية وتربوية إلى أن انتهى بها المطاف، بعد الترميم، كمرفق ثقافي، يستضيف فعاليات فنية وتراثية، ويحتضن ذاكرة المكان والناس.

وها هو اليوم يحتضن مهرجانا بأنامل فتيات الجنوب، لم يكن الحضور فيه مجرّد سرد لقصص نجاح، بل كان المهرجان معرضا حيا للتجذّر الثقافي. ففي إحدى أروقة الفيلا استوقفتنا صورة آسرة لمنصة النسيج التقليدي بجميع خطواته؛ فنون خشبية، وخيوط صوف خامة، وألوان تنبض بالحياة؛ حيث تجلس امرأة بثوبها الأبيض، تجسّد روح الأمازيغ والصحراء والجبال في آن واحد. 

المفروشات المطرّزة، والسجاد المصبوغ يدويا، وأدوات الغزل القديمة، كلّها تروي تاريخا غير مكتوب عن نساء الجنوب؛ مبدعات، ومكافحات، وحافظات للهوية؛ فكلّ قطعة قماش، وكلّ خيط، وكلّ لون، هو قصيدة نسجها الجهد والحلم، والانتماء. وبين اللون العنابي والبرتقالي المحروق والقمحي الصحراوي، نقرأ لغة الجنوب أصالة، ورؤى، وإبداعا لا ينضب. 

فيلا بولكين بهذا اللقاء تجاوزت حدود الحجر والزمن، لتصبح مساحة لقاء حقيقي بين الماضي والحاضر، وبين الذاكرة والإنجاز، وبين الجنوب وبناته. المهرجان لم يكن، فقط، احتفالا بالتراث، بل منصة للاعتراف بمكانة المرأة الجزائرية كحاملة لقيم الإبداع والاستمرار، للقول إنّ في الصحراء والجنوب عامة، ما هو أعمق من الرمال والكثبان، بل هناك دفء المكان، وصدق القصص، وهمس الحكايات التي لا تروَى إلاّ حين تتقاطع الأرواح في حضن التاريخ.


حرفيات مبدعات 

فاطمة عثماني: أنامل ترقية تنسج من الجلد ذاكرة الصحراء

في قلب صحراء إليزي حيث تتعانق الكثبان الذهبية مع زرقة السماء وتهمس الرياح بأسرار الأجيال، وُلدت فاطمة عثماني، وسط بيت تُعلَّق فيه جلود الماعز كستائر من ذاكرة، وتُفترش فيه الأرض بـ"الفرشة" الجلدية، وتعلَّق "القربة" في الزوايا؛ كأنّها أوعية للزمن.

لم تكن فاطمة مجرّد شاهدة على هذا التراث، بل كانت وارثة لسرّ قديم.. سرّ الحرفة التي سكنتها منذ الطفولة، حين كانت تراقب والدها منهمكا بين أنفاس الدباغة، وطرق الإبرة، ورائحة الجلد المشبّع بالحليب أو الدهان الطبيعي. ففي أسرة عثماني كانت صناعة الجلود حرفة رجالية، متجذّرة في تقاليد العائلة، تمارَس بأيد قوية. تصنع منها الخيمة الصحراوية التي تصمد أمام الريح، و"الشكوة" التي يخضّ فيها الحليب، و"القربة" التي تحفظ الزاد والماء في جوف الرمال.

لكن فاطمة الفتاة التي كسرت الصمت، تسلّلت إلى عالم أبيها ليس سرقة، بل حبا وعشقا للجلد كرائحة، كملمس، كتاريخ. ومع مرور الزمن لم تكتف بالمراقبة، بل ورثت التقنية، وطوّرت الأدوات، وفتحت باب الحرفة للنساء، لكن بطابع معاصر يوازي الواقع؛ "كانت صناعة الجلد في عائلتي أكبر من أن تكون مجرّد مهنة"، تقول فاطمة بابتسامة دافئة. "كانت فلسفة حياة... الجلد كان يشكّل خيمتنا، وسريرنا، وأدواتنا اليومية، لكنّنا، اليوم، نصنع من نفس الجلد قطعا أخف، تعبّر عن ذاتنا الترقية، لكن بما يناسب المرأة المعاصرة" .

وبالفعل تحوّلت فاطمة إلى أيقونة نسوية في إليزي؛ حيث تقود ورشة مصغّرة لتعليم الفتيات تقنيات الجلد التقليدي، لكن بلمسات أنثوية ناعمة. ولم تعد تصنع الخيمة، ولا القربة الثقيلة، بل أبدعت في الحقائب الجلدية المشغولة يدويا، والأحزمة المطرّزة، وأساور تحمل نقوش الطوارق، ومحافظ مرسومة بخط التيفيناغ، ومعلقات فنية تستلهم زخارف الخيمة القديمة.

وفي معرض فيلا بولكين كانت زاويتها واحدة من أكثر الزوايا جذبا للزوّار، لا لكونها فقط تعرض منتجات جلدية، بل لأنّها تحمل قصة امرأة أحيت ذاكرة، ومرّرت الحرفة من سياقها الذكوري إلى حضن الأنوثة دون أن تفقد جوهرها. وقالت بهمسات المكان الذي كانت تدبغ فيه الجلود بالتراب والرماد، " صار، اليوم، فضاء للألوان الطبيعية، وزيت الأرغان، والنقوش الترقية. وصارت الحرفة رسالة، والمنتج قطعة فنية، تعبّر عن الانتماء، وتحفظ جزءا من تاريخ إليزي العريق ".

سمية شعبان: حين تقطر الطبيعة في قارورة جمال وصحة

من بين جبال ولاية النعامة حيث تنمو الأعشاب في صمت مهيب وتتنفس الأرض أنفاسها العذبة بعيدا عن ضجيج المدن، خرجت سمية شعبان برسالة صافية كقطرة زيت؛ نقية كمصدرها، وغنية كأرضها. رسالتها لا تقال فقط بالكلمات، بل تقطر حرفيا، لتتحوّل الأعشاب إلى زيوت، والزيوت إلى علاج، والعلاج إلى نمط حياة.

سمية الحرفية المبدعة، لم تكن باحثة عن مشروع تجاري فحسب، بل سلكت طريقا متجذّرا في ثقافة الجدات، ليست جدّتها فقط، وإنّما جدات المنطقة؛ حيث كانت المرأة الريفية تدهن بزيوت الطبيعة قبل أن تدرك أنّ ذلك يسمى اليوم "روتين عناية" . ونشأت في بيت تقدَّر فيه قيمة "الزيت" لا كمنتج، بل كجزء من الطقوس اليومية، سواء كان زيت الزعتر لعلاج الصدر، أو زيت الخزامى لراحة الأعصاب، أو زيت الحلبة لتغذية الشعر.

تقول سمية بابتسامة لامعة كلمعة زيوتها: "كنت أراقب جدتي وهي تقطّر الزيوت في بيتنا، وتقول لي: " الطبيعة تمنحنا كلّ شيء... فقط علينا أن نحسن الأخذ عنها" . وما بدأ كفضول تحوّل إلى مشروع، ثم إلى شغف يومي. ومع الوقت أتقنت سمية تقنيات استخلاص الزيوت الطبيعية الباردة؛ حتى لا تفقد مزايا كلّ عشبة. وبدأت تختبر تأثيرها على نفسها، ثم على من حولها. وشيئا فشيئا صارت منتجاتها تُطلب من كلّ جهة. وأصبحت معروفة بكونها "التي تعيد للزيت هيبته".

وخلال مشاركتها في لقاء "قصص النجاح من الجنوب الجزائري" في فيلا بولكين، لم تكن سمية، فقط، تعرض منتجاتها، بل كانت تلقي دروسا في الصحة، وفي العودة إلى البساطة. فعلى طاولتها قارورات صغيرة شفافة، كلّ واحدة تحمل روح نبتة بين إكليل الجبل، والورد الصحراوي، والحلبة، والحبة السوداء، والأرغان، واللافندر، وحتى الصبار.

"نحن في زمن السرعة، لكن الجمال لا يحبّ العجلة"، تقول سمية. وتدعو كلّ امرأة لتبنّي روتين عناية أكثر ارتباطا بالأرض، وأقلّ اعتمادا على الكيمياء. زيوتها لا تقدّم فقط جمالا خارجيا، بل تنبع من إيمانها بأنّ الجمال يبدأ من الداخل؛ من الصفاء، من احترام الجسد، ومن فهم حاجاته. وتشدّد سمية في حديثها إلـى "المساء"، على أهمية التثقيف حول استخدام الزيوت؛ فهي ليست، فقط، "موضة"، بل علم ومعرفة. وفي ورشاتها تعلّم النساء كيف يصنعن خلطات خاصة بهن، تناسب نوع بشرتهن أو شعرهن أو حاجاتهن الصحية، مؤكّدة أن المرأة الجزائرية بدأت تستعيد علاقتها القديمة بالطبيعة، لكن بوعي حديث أكثر عمقا.

غالية برناوي: حديث الأرض من أدرار

في عمق الجنوب الجزائري حيث تُنحت الحياة من الطين وتشكَّل بالشمس واليد، برزت الفنانة غالية برناوي، امرأة من أدرار، تحمل في قلبها حرارة الأرض، وفي أناملها ذاكرة الأجداد، متخصّصة في صناعة الفخار التقليدي. لم تر فيه مهنة فحسب، بل لغة صامتة تتحدّث بها الأرض، وتنقل بها القصص من جيل إلى جيل؛ فهي ليست، فقط، حرفية، بل معلمة وراوية تراث، تؤمن بأنّ الطين ليس مجرّد مادة، بل وسيط ثقافي، يمكنه أن يحمل هوية شعب بأكمله. ومن تحت يديها تولد الكؤوس، والجرار، والصحون، والمزهريات. تميّزها الألوان "الرصاصية" لكنّها تولِد، أيضا، روايات وحكايات عن الأم التي كانت تخبز في الطاجين من الطين، وعن الجدة التي كانت تحتفظ بالماء في "القلوسة"، وعن الطفلة التي كبرت تحلم بأن تحفظ هذه الحرفة من الضياع.

وتقول غالية إنّ الفخار لا يُصنع فقط من التراب والماء، بل من الصبر، ومن الإحساس، ومن الاحترام لما تمنحنا إياه الطبيعة. ففي ورشتها الصغيرة بأدرار والتي تحوّلت إلى فضاء مفتوح للتعلّم، لا تدرس غالية تقنيات الفخار فحسب، بل تزرع في أطفال المنطقة حبا للأصل، وشعورا بالانتماء، تنادي دوما بأنّ الحرف التقليدية يجب أن تكون جزءا من المناهج التعليمية ليس كمواد ثانوية، بل كقيمة أساسية في بناء الهوية الثقافية.

حين جاءت إلى فيلا "بولكين" للمشاركة في تظاهرة "قصص النجاح من الجنوب الجزائري"، حملت الحرفية معها أدواتها البسيطة... الفخار، بعض الأصباغ الطبيعية، قطع من أعمالها، والكثير من الشغف، مشدّدة على حرصها على تعليم الأطفال، وتخصيص، قريبا، برنامج ضمن منهج التعليم الابتدائي كنشاط جانبي للصغار، وحتى تسلية للأطفال المرضى بالمستشفيات. وأكثر ما جذب الحضور على هامش المهرجان لم يكن، فقط، جمال المعروضات، بل الروح التي تتكلّم من خلال الفخار؛ فانحناءات الأواني والنقوش اليدوية والألوان الترابية... كلّها تشبه طبيعة أدرار الساحرة.

غالية تحدّثت عن أهمية استمرار هذا الفن في زمن تكاد فيه المنتجات السريعة تبتلع الأصالة. ووجّهت دعوتها خاصة للنساء الشابات، بأن يتعلّمن لا ليصبحن فقط حرفيات، بل حافظات لذاكرة جماعية، منقذات لخطّ يد اندثر، وناقشات لرموز ظلّت لقرون تحكي بلا كلمات، مؤكّدة بكلماتها: "كلّ وعاء أصنعه هو رسالة لأحفادي"، مضيفة: "أريدهم أن يعرفوا أنّ الجمال لا يستورَد، بل يُستخرج من طين أرضهم". وفي حضرة تلك الحرفيات لا عجبَ أنّ روح بنت الداي شعرت أنّ الفيلا لها، اليوم، صدى جديد؛ فلم تعد البناية، فقط، قصرا من الماضي، بل صارت مسرحا تعليميا لنساء يحملن الأرض بأيديهن، ويقدّمنها للأجيال القادمة كهدية من التاريخ.