جيل الشاشات

حين تتحوّل الألعاب الإلكترونية إلى إدمان صامت

حين تتحوّل الألعاب الإلكترونية إلى إدمان صامت
  • 141
سميرة عوام سميرة عوام

اجتاح الإدمان على الألعاب الإلكترونية عقول كثير من أطفال ومراهقي مدينة عنابة، الذين باتوا يقضون ساعات طويلة أمام الشاشات، منغمسين في عوالم افتراضية، خطفت انتباههم، وأثّرت على سلوكهم، وصحتهم النفسية، وحتى تحصيلهم الدراسي. وفي زمن لم تعد فيه التكنولوجيا ترفاً بل ضرورة، تسلّلت الألعاب الإلكترونية إلى كلّ بيت، وكلّ جيب، وكلّ غرفة، لتصبح جزءاً من يوميات الأطفال والمراهقين، بل وحتى الكبار. وبينما كانت هذه الألعاب في بداياتها وسيلة للترفيه المؤقت، تحوّلت اليوم إلى حالة إدمان حقيقي عند فئات واسعة من الشباب، خصوصا مع الانتشار الكاسح لألعاب مثل "بابجي PUBG"، و"فري فاير" و"كلاش أوف كلانس"، وغيرها من المنصات القتالية التي تغذّي العنف، وتعزل اللاعب عن واقعه.

شاشات تخطف الطفولة

في أحياء عنابة من الحجار إلى لاكورنيش، مرورا بسيدي عمار وبوزعرورة، يكاد لا يخلو بيت من طفل أو مراهق يحمل هاتفا أو جهازا لوحيا، منهمكا في معركة افتراضية، أو تحدٍّ إلكتروني، لا يكترث لما يدور حوله. وأصبح من المألوف أن ترى طفلًا في السابعة أو الثامنة يلعب "بابجي" لساعات دون توقّف؛ يصرخ، وينفعل، ويعيش جوا مشحونا بالعدائية والانفعال، لا يُشبه عمره، ولا بيئته.

"بابجي".. اللعبة الأشهر والأخطر

تُعدّ لعبة "بابجي" إحدى أبرز وأخطر الألعاب المنتشرة بين أطفال وشباب عنابة. فهذه اللعبة القتالية التي تقوم على مبدأ البقاء للأقوى، تُغذي في ذهن المراهق، نزعة التنافس الشديد، وتدفعه إلى قضاء ساعات متواصلة دون انقطاع في محاولة "للفوز" بأيّ ثمن؛ ما يخلق نوعا من التعلّق النفسي والسلوكي. وتشير شهادات أولياء الأمور إلى أنّ بعض أبنائهم لا ينامون ليلًا، ويُضطرون أحيانا للكذب والاحتيال للحصول على الوقت الكافي للعب. 

كما لاحظ البعض تغيّرات واضحة في سلوك أبنائهم؛ انطوائية، وتراجعا دراسيا، وعصبية مفرطة، وإهمالا للواجبات اليومية. يقول أحد الأولياء من منطقة خرازة: "ابني لم يعد يخرج من غرفته؛ يقضي الليل يلعب " بابجي " مع أصدقاء وهميين. يصرخ، ويغضب، وقد يكسر شيئا إن خسر الجولة. حاولت منعه، فدخل في نوبات غضب حادة. لم أعد أعرف كيف أتعامل معه ".

التأثير على الصحة النفسية والتعليم

أكّد مختصون نفسيون في عنابة، أنّ الإفراط في استخدام الألعاب الإلكترونية يؤدي إلى عدّة مشاكل نفسية وسلوكية، منها "الانعزال الاجتماعي" ؛ إذ يُفضّل الطفل أو المراهق قضاء الوقت مع أجهزته بدل التواصل مع العائلة أو الأصدقاء، و "القلق والاكتئاب" نتيجة ضعف الثقة بالنفس خاصة إذا كانت الهزائم في اللعبة متكرّرة إلى جانب "ضعف التركيز والانتباه" ؛ ما يؤثّر سلبا على التحصيل الدراسي، والاضطرابات السلوكية كالعنف اللفظي والجسدي، والعناد، وفقدان السيطرة على الانفعالات.

من جهة أخرى، تُظهر الإحصائيات التربوية في بعض المؤسّسات التعليمية بعنابة، أنّ عددا كبيرا من التلاميذ يُعانون من تراجع ملحوظ في الأداء الدراسي. ويُرجع بعض الأساتذة السبب إلى إدمان التكنولوجيا، خاصة الألعاب الإلكترونية. وتقول معلمة في مدرسة ابتدائية بعنابة، "أصبحت ألاحظ أنّ عددا من التلاميذ يُعانون من التعب والشرود، لا ينجزون واجباتهم. وبعضهم يتحدّث عن ألعابهم داخل الفصل. وحتى في الرسم أصبحوا يرسمون مشاهد من " بابجي " ، أو الأسلحة والشخصيات الرقمية!" .

من التسلية إلى الإدمان

تُعرّف منظمة الصحة العالمية إدمان الألعاب الإلكترونية، بـ "نمط من سلوك اللعب المستمر أو المتكرّر، سواء عبر الإنترنت أو دون اتصال. يتجلى في فقدان السيطرة على اللعب، وأولوية متزايدة له على حساب الاهتمامات الأخرى ". 

هذا التعريف ينطبق على كثير من الحالات المنتشرة في عنابة. ففي غياب رقابة حقيقية ونقص في الأنشطة البديلة، يجد الطفل نفسه يعيش في عالم رقمي يبتعد تدريجيا عن الواقع. وهذا يُؤدي، كما أكد أطباء نفسانيون في مستشفى "ابن رشد"، إلى اضطرابات نوم، وفرط حركة، وتعلّق مرضي بالألعاب. ورغم صدمة بعض الأولياء حين يكتشفون أنّ أبناءهم مدمنون على لعبة ما، إلا أنّ الأغلبية لاتزال تفتقر للوعي الكافي بخطورة الوضع. 

الكثير من الآباء يشترون الهواتف والأجهزة لأولادهم بدافع "الترفيه" أو "السكون"، غير مدركين أنّ هذه الأدوات قد تكون بوابة إلى مشاكل سلوكية وتعليمية خطيرة. كما إنّ البعض يرى في الألعاب وسيلة لـ"تمضية الوقت" في ظلّ نقص المساحات الترفيهية، وقلة الأنشطة الثقافية والرياضية في بعض الأحياء. هذه الفجوة ساهمت في تفشي الإدمان الإلكتروني، خصوصا بين الأطفال الذين لا يجدون بديلًا عن الهاتف.

مبادرات محلية تحاول التدخّل

لحسن الحظ بدأت بعض الجمعيات في عنابة، مثل جمعية "بسمة أمل" لحماية الطفولة، وجمعية "نحو وعي رقمي"، في تنظيم ورشات توعية لأولياء الأمور والتلاميذ، حول الاستخدام الآمن للتكنولوجيا، وخطورة الإدمان على الألعاب. كما قامت بعض المدارس بالتعاون مع مختصين نفسانيين؛ بإطلاق حصص توجيهية داخل الأقسام، تُشرح فيها الآثار النفسية والسلوكية للألعاب العنيفة، وتُعرض البدائل المناسبة.

لكن رغم هذه الجهود تبقى الحاجة ملحّة إلى سياسة تربوية وإعلامية وطنية، تحارب هذا النوع من الإدمان، وتُشجّع على استخدام التكنولوجيا بشكل متوازن ومفيد. ولمواجهة هذه الظاهرة المتفاقمة يرى المختصون أنّ الحلول يجب أن تكون متكاملة؛ منها تحديد وقت اللعب اليومي للأطفال والمراهقين، وفق معايير عمرية واضحة.

وفتح فضاءات تربوية وثقافية ورياضية في الأحياء؛ لملء وقت الفراغ بشيء نافع، إلى جانب تعزيز دور المدرسة في نشر الوعي الرقمي، وتدريب التلاميذ على الاستخدام الإيجابي للتكنولوجيا، وكذا مرافقة نفسية متخصّصة للأطفال المدمنين، ضمن عيادات الإرشاد النفسي المدرسي أو الجمعوي. وتنظيم حملات إعلامية محلية تبين خطر الإدمان على الألعاب العنيفة، وتروّج للألعاب التعليمية المفيدة. وإذا استمر الأمر على ما هو عليه، فقد نصل إلى جيل يعيش في عزلة رقمية، يتفاعل مع الواقع بمنطق "اللعبة"، ويُهمل دراسته، وصحته، وعلاقاته الاجتماعية؛ لذلك يجب أن يكون إدمان الألعاب الإلكترونية، ملفا ذا أولوية لدى الأسرة، والمدرسة والإعلام.