"البوراك العنابي" و"الشخشوخة" لذة وعراقة

حينما يتحول المطبخ إلى مرآة للهوية

حينما يتحول المطبخ إلى مرآة للهوية
  • 139
سميرة عوام  سميرة عوام 

لا تُعرف ولاية عنابة، جوهرة الشرق الجزائري، فقط بجمال شواطئها أو عمق تاريخها، بل أيضًا بمطبخها الفريد، الذي يشكل امتدادًا حيًّا لذاكرتها الثقافية. في هذا الركن البحري من الجزائر، تتداخل النكهات كما تتداخل الحضارات، ويصبح المطبخ العنابي بمثابة سجل مفتوح يروي قصة المدينة، من الميناء إلى المائدة، ومن الأزقة القديمة إلى الأفران العصرية.

من بين جواهر هذا المطبخ، يبرز "البوراك العنابي" بالفواكه البحرية، كتحفة ذوقية وفنية، توازي في رونقها أرقى المملحات العالمية، في حين تحتفظ "الشخشوخة" العنابية بجذورها العميقة، كطبق يلامس روح الأصالة الجزائرية، مع لمسة خاصة تميز العنابيين عن غيرهم.

"البوراك العنابي" ترجمة لنكهة البحر

إذا كان البوراك في الجزائر عامةً، من المقبلات الرمضانية المحببة، فإن "البوراك العنابي" يرتقي بها إلى مستوى آخر، ويكون حاضرا في كل المناسبات والمواسم والأفراح. فهنا، لا تكتفي السيدات بحشوه بالبطاطا أو اللحم المفروم، بل يُدخلن فيها ثمار البحر: القمرون (الجمبري)، الكلمار،  في وصفة تمزج بين الرقي والبساطة.

يُلف "البوراك" بعناية، ويُحشى بمزيج متوازن من المأكولات البحرية، البقدونس والبصل، والبهارات العنابية الخاصة، ثم يُقلى حتى يأخذ اللون الذهبي المقرمش، في مشهد يخطف الأبصار، قبل أن يأسر الأذواق.

ما يُميز "البوراك العنابي" ليس فقط مكوناته، بل الشكل الفني الذي يُقدم به. فهو لا يقل أناقة عن المملحات المعاصرة التي نراها في معارض الطهو أو مطاعم الذواقة، بل يضاهيها، ويحتفظ محلية تضيف إليه بُعدًا تراثيًا وجماليًا. إنه طبق يُحضر بحب، ويُقدم بفخر.

"الشخشوخة" العنابية... البنة في البساطة

أما "الشخشوخة"، ذلك الطبق التقليدي الجزائري الذي يأخذ أشكالًا مختلفة، حسب المناطق، فله في عنابة نكهة لا تُشبه غيرها. بعجائن تُحضر يدويًا وتُفتت بدقة، تُقدم "الشخشوخة" العنابية غالبًا بمرق أحمر، يحتوي على اللحم، الحمص، ومزيج من التوابل القوية، كما يزين بالبيض والبنادق المصنوعة من اللحم، كل هذه المنمنمات تميز المطبخ العنابي.

في بعض المناسبات، تُحضر "الشخشوخة" بمرق أبيض، أو تُضاف إليها القرفة لتعطيها نكهة خاصة، في تجديد دائم للطبق دون المساس بجوهره. هذا التوازن بين الأصالة والمرونة، يجعلها طبقًا حيًا يتطور مع الزمن، لكنه لا ينفصل عن جذوره.

المطبخ العنابي في معركة الهوية

رغم العولمة، ورغم زحف الوجبات السريعة والمملحات الجاهزة، التي أغرت الكثيرين، لا يزال المطبخ العنابي ـ وعلى رأسه البوراك العنابي والشخشوخة ـ صامدًا، بل أكثر من ذلك، أصبح مصدر فخر وهوية، ومجالًا للتجديد الإبداعي.

الشباب العنابي، خاصة الطهاة الجدد وصانعات المحتوى، بدأوا في إعادة إحياء هذه الوصفات، وتقديمها بطرق جذابة، دون المساس بجوهرها. صفحات على "فايسبوك" و"إنستغرام"، وحتى برامج على "يوتيوب"، باتت تُظهر "البوراك العنابي" كمنتج راقٍ يعكس تراث المدينة، ويُنافس أشهر الأطباق العالمية.

حين يصبح الطبخ مقاومة ثقافية

في النهاية، لا يمكن الحديث عن عنابة دون التوقف عند مطبخها. فكل لقمة من "بوراك بحري" أو "شخشوخة" عريقة، ليست فقط أطباقا ومقبلات عادية، بل قصة تُروى، وهوية تُحفظ، وذاكرة تُقاوم النسيان.

المطلوب اليوم، ليس فقط الاستمتاع بتلك الأطباق، بل فهم معناها، وتحويلها إلى جزء من المشروع الثقافي للمدينة. فالمطبخ، حين يُحافَظ عليه، يصبح مقاومة ناعمة ضد ذوبان الهوية في عولمة لا ترحم. عنابة، بمطبخها العريق، تكتب فصلاً جديدًا من فصول التميز الجزائري… وكل "بوراك" تُحضره أيادٍ محلية، هو بمثابة قصيدة تُغنى للبحر، الأرض والأصالة.