الجيرة بين الأمس واليوم

برودة الإسمنت تطفئ دفء العشيرة

برودة الإسمنت تطفئ دفء العشيرة
  • 95
سميرة عوام سميرة عوام

تراجعت مظاهر التضامن بين الجيران في مدينة عنابة بشكل لافت، خلال السنوات الأخيرة، حيث أصبح مشهد الجار الذي يطرق باب جاره بطبق من الطعام أو دعوة لتناول القهوة نادراً إن لم نقل منقرضا في بعض الأحياء الحديثة. هذا التغيّر لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج مباشر لتحولات عمرانية واجتماعية عميقة، غيّرت من طبيعة النسيج السكاني، وأثّرت في نمط العلاقات اليومية التي كانت تُبنى سابقا على القرب، والثقة والمشاركة.

في الماضي كان الحي بمثابة العائلة الممتدة. لم تكن الجدران تعني العزلة، بل كانت أبواب البيوت مفتوحة على مصراعيها في غالب الأحيان، يدخلها الجار كأنه أحد أفراد الأسرة. الأطفال يخرجون للعب في الأزقة بأمان، والنساء يتبادلن الصحون، والوصفات، والضحكات. والرجال يسهرون معاً على أرصفة الحي؛ يتبادلون أطراف الحديث عن العمل، والسياسة، وأخبار العائلة. 

تلك المشاهد التي تبدو اليوم من زمنٍ غابر، كانت يوميات عادية في أحياء عنابة القديمة؛ مثل "جبانة اليهود" ، و "برمة الغاز"، و "لاكلون"، و"بلاص دارم"، حيث كان الجميع يعرف الجميع، وكان السؤال عن الغائب فرض عين لا تطوُّع. لكن سرعان ما بدأت هذه المظاهر تتراجع بشكل تدريجي تزامنا مع عمليات الترحيل وإعادة التهيئة العمرانية، التي شملت الكثير من الأحياء الشعبية. 

شُيّدت أحياء جديدة بأسلوب عمراني عمودي، تم فيها جمع سكان من خلفيات اجتماعية وثقافية متباينة دون سابق معرفة أو تعايش مشترك. وجاء جيران جدد، ولكن العلاقة لم تكن دافئة كما في السابق. تراجعَ الحس الجماعي، وانسحب كل فرد إلى خصوصيته، وباتت العلاقة بين الجيران أقرب إلى "السلام البارد" منها إلى الأخوّة.

وأمام هذا الواقع برز موقف جديد من كثير من العائلات: "الابتعاد عن الاحتكاك بجيرانهم الجدد". وتحت شعار "الخلطة واعرة" أصبحت الثقة عملة نادرة، وأضحى كثيرون يفضّلون العزلة على المخاطرة بتجربة اجتماعية قد تنتهي بمشاكل أو صراعات. في أحياء كاملة قد يعيش الناس جنبا إلى جنب لعشر سنوات أو أكثر دون أن يعرف بعضهم بعضا، ولا حتى الأسماء.

وفي المقابل، ماتزال القرى والأرياف في ضواحي عنابة، تحتفظ بروح الجيرة الأصيلة، خاصة ضمن ما يُعرف بالعرش – مثل "أولاد العرش" ؛ حيث ماتزال العلاقات قائمة على الاحترام والتكافل. هناك ماتزال "القصعة" تجمع العائلات في المناسبات. وماتزال الأعراس تُنظَّم بشكل جماعي. واليد في اليد عند المرض أو الموت أو أي ظرف طارئ. الجار هناك مايزال سنداً لا عبئاً يُتجنب.

المفارقة أن المدينة التي يُفترض أن تكون مركزا للتطور والتقدم، أصبحت، اليوم، تُعاني من برودة العلاقات الإنسانية، في حين أن الريف، ببساطته، احتفظ بحرارة الجيرة. ويعود ذلك جزئيا إلى طبيعة النمط العمراني في المدن الكبرى، حيث الشقق المغلقة والفضاءات المشتركة المحدودة لا تتيح تواصلًا حقيقيا، فضلًا عن أن الحياة الحضرية تُعزز الفردانية، بينما الحياة القروية تُكرّس الجماعة. ولا يمكن الحديث عن هذه الظاهرة دون التطرق لتأثير التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، التي ساهمت في تغذية العزلة والانكفاء على الذات. أصبح التواصل رقميا حتى بين سكان البيت الواحد، فما بالك بين الجيران! 

لم يعد الأطفال يطلبون من أمهاتهم "نروح نلعب مع أولاد الجيران" . ولم تعد النساء يجلسن على العتبات يتبادلن القصص والطرائف. فقدنا ذلك التماس الإنساني الذي كان يخلق الألفة. وصارت الجيرة مجرد تلاصق جغرافي، لا علاقة وجدانية. الحنين إلى الماضي هو كل ما تبقّى عند كثير من الكهول وكبار السن الذين مازالوا يتذكرون أيام رمضان، عندما كانت العائلات تفطر جماعيا؛ كل يوم في بيت. ويُعد طبق جماعي يُرسل للأرامل والفقراء. وأيام العيد عندما كانت الأبواب تُطرق منذ الصباح الباكر بالتهاني والهدايا البسيطة. وأيام الشتاء الطويلة حين كان "الطاجين" يُرسل ساخناً من بيت إلى آخر.

حلم جميل يغيب ..

تحوّلت هذه الذكريات إلى ما يشبه الحلم الجميل الذي يصعب تكراره، لكنّه مايزال حيا في الوجدان الجماعي. ومن المؤلم أن أبناء الجيل الجديد لا يعرفون شيئا عن هذه التقاليد، بل ربما يرونها سلوكاً غريباً أو "دخيلًا" عن الحياة العصرية. لكن رغم كل شيء ماتزال الفرصة قائمة لإحياء روح الجيرة ولو جزئيا.  يمكن المبادرات البسيطة أن تعيد بناء الثقة: التحية اليومية، والكلمة الطيبة، وتقديم المساعدة عند الحاجة، والاهتمام بالآخر حتى من باب السؤال فقط. التربية، أيضا، تلعب دورا محوريا؛ لأن الطفل الذي ينشأ في بيت يُعلي من قيمة الجار، سينقل هذه القيم لاحقا، في حياته الخاصة.

لقد ضاع دفء الجيرة في زحمة الإسمنت والحداثة الباردة، ولكن مازال الأمل قائما في أن تستفيق المجتمعات الحضرية من سباتها العاطفي، وترد الاعتبار لهذه العلاقة النبيلة التي جعلها الإسلام في مرتبة الأخوة. ليس الجار مجرد شخص يشاركنا الجدار، بل هو مرآة قيمنا، وشاهد على إنسانيتنا. وإذا كانت عنابة بتاريخها العريق وثقافتها المتجذرة شهدت هذا التراجع، فإنها، كذلك، قادرة على أن تكون نموذجا في استعادة الدفء الاجتماعي إذا ما توفرت الإرادة، وصدقت النية.