مازالت تقاوم زحف الإسمنت على حساب حدائقها الغنّاء

"الوريدة"... طقوس خاصة وحس أندلسي برونق الأزهار

"الوريدة"... طقوس خاصة  وحس أندلسي برونق الأزهار
  • القراءات: 827
رشيدة بلال رشيدة بلال

كشف معرض الزهور، الذي أقيم في ولاية البليدة مؤخرا، كتقليد سنوي ينظم تزامنا وحلول فصل الربيع، عن مدى تمسك البليدين بثقافة غرس الورود والأزهار والنباتات الخضراء في المنازل، رغم التغير العمراني الذي زحف على المدينة، وجعل مساحات الغرس تتراجع، بعدما تخلى الكثيرون عن تخصيص مساحات للغرس في منازلهم، وبشهادة المشرفين على المعرض من الممتهنين لغرس النباتات المنزلية والزهور، فإن البليدة وعلى الرغم من زحف الإسمنت عليها، ستظل مدينة الورود التي لطالما عُرفت بها، وتحوز عددا من الأصناف التي لا توجد إلا في البليدة "الوريدة"، التي ارتبط بها منذ تأسيسها على يد الولي الصالح سيدي أحمد الكبير، الذي أكسبها طابعا أندلسيا، بعدما اهتم بغرس الأشجار والزهور وتشييد الحدائق.

وقفت "المساء"، مؤخرا، بمعرض الزهور، على التوافد الكبير للباحثين عن بعض الأصناف من الزهور والنباتات التي تشتهر بها الولاية، ولم تعد تغرس في المنازل، بسبب عدم توفر المساحات الزراعية، كون النسيج العمراني لم يعد يهتم بالمساحات الخضراء بقدر اهتمامه باستغلال المساحات للسكن، الأمر الذي أثر على هذا التقليد، وهو ما جاء على لسان إحدى السيدات، والتي أكدت بأنها تسعى جاهدة من أجل الإبقاء على بعض الأصناف في منزلها، مثل "العذراء" و"القرنفل" و"الفل" و"الياسمين"، ورغم أنها لا تملك مساحة للغرس، بعدما أيد بناء منزل العائلة بطريقة عصرية، مشيرة إلى أنها تسعى إلى اقتناء النباتات التي تغرس في الأصيص أو في السطوح فقط، من أجل الإبقاء على منزلها مفعما بالورود، وتحافظ على هذا التقليد، كونها ابنة مدينة الورود، فيما أكدت أخرى، بأنها تقيم في منزل  تقليدي أو ما يسمى بـ"دار عرب" في حي الدويرات العريق، "ولا تزال تحافظ على عادات وتقاليد سكان المنطقة فيما يتعلق بغرس الأزهار والورود، وحتى النباتات العطرية، مثل "الحبق" و"النعناع"، وتملك كل الأنواع التي تشتهر بها الولاية، مثل "محمود" و"القرنفل" و"الحبق" و"الياسمين" و"مسك الليل" و"الحاشية"، ونبات "القطيفة"، وتسعى جاهدة في سبيل ربط أبنائها بهذه الحرفة، حتى تظل مدينة الورود محافظة على تسميتها، من خلال سكانها.

يبدو أن البليدين وعلى الرغم من زحف الإسمنت وتراجع المساحات المخصصة لغرس الأزهار في المنازل استجابة لمتطلبات العصر الحالي، ومع هذا فان التخلي على هذا التقليد  غير وارد حسب ما أجمع عليه كل المستجوبين خاصة من فئة النساء اللواتي تحدثت إليهن "المساء" على هامش معرض الزهور ولو كان ذلك بشراء بعض الأزهار وتزيين شرفات  و مداخل المنازل بها فقط من أجل الإبقاء على تسمية  "البليدة الوريدة".

معرض الزهور محاولة للإبقاء على تسمية "الوريدة"

يقول الباحث في تاريخ البليدة، يوسف أوراغي، بأن الاهتمام بغرس الأزهار في ولاية البليدة، تقليد قديم يعود إلى سنوات قبل العهد الاستعماري، حيث كان الأندلسيون مولعين بالطبيعة، فاهتموا بالبساتين وزراعة الأزهار والورود في الحدائق، وفي العهد الاستعماري، كان ينظم ما يعرف بـ«حرب الورود"، حيث كانت تجمع كل أنواع الورود في عربات تجوب شوارع المدينة، بعدها يتم المشاركة في مسابقة، والتراشق بالبراعم، غير أن هذه التظاهرة لم تعد موجودة، وتم الإبقاء فقط على معرض الزهور، الذي لا يزال البليديون يحاولون من خلاله، التمسك بالتسمية، بحث السكان على غرس الأزهار والورود في منازلهم، وحسبه، فإن سبب تراجع الاهتمام بغرس الأزهار؛ زوال "ديار العرب" التي كانت كلها تتوفر على أشجار الليمون و"الياسمين" و"الفل" و"مسك الليل"، مضفا بقوله: "اليوم انتقل السكان إلى العمارات التي قتلت شغف زراعة الأزهار والورود، ولم يعد لديهم الوقت الكافي لتزين المنازل بها".

قال المتحدث: "وأكثر من هذا، فإن التحول العمراني أثر حتى على بعض الأصناف التي انقرضت، ولم تعد موجودة، مثل مسك الرومي، والفل، الذي تراجع بشكل كبير وسلطان الغابة، وهو ما أثر حتى على بعض الصناعات التقليدية المرتبطة بالأزهار، مثل صناعة العطور المنزلية من بعض الأصناف، والتي كانت تقليدا يمارس في بعض العائلات العريقة في البليدة".

من جهة أخرى، أشار المتحدث، إلى أن الاهتمام بزراعة الأزهار على مستوى مدينة الورود، أصبح مقتصرا على سكان الجبال، الذين لا يزالون يحافظون على الطابع التقليدي في مساكنهم، ويحرصون على تزيين منازلهم بمختلف أنواع الأزهار والورود، خاصة تلك التي تحتاج لمساحات كبيرة، مثل "الياسمين"، مؤكدا في السياق، بأن مدينة الورود لم يبق فيها إلا المعرض، الذي يحاول من خلاله العارضون وبعض محبي النباتات، التمسك بهذا التقليد، والحفاظ على هذه التسمية، من خلال الاهتمام بغرس كل الأنواع التي لطالما عرفت بها الولاية، مثل "القرنفل" و"مسك الليل" و"الياسمين" و"البنفسج" و"الخديوجة".

التغير العمراني أثر على هويتها وضيع ملامحها

أرجع البروفيسور يوسف شناوي، أستاذ بالمدرسة الوطنية متعددة التقنيات للهندسة المعمارية والعمران، التخلي عن بعض التقاليد بالدرجة الأولى، إلى التغير العمراني الذي غير وجه بعض المدن، كونه لا يتوافق مع هويتنا وعاداتنا وتقاليدنا، مثل العمارات التي تقام بناء على تخطيط يحتوي على عدد من الاختلالات، التي أثرت بشكل كبير على الناحية الجمالية للمدن، وحتى على الثقافة والهوية، مؤكدا أن الأندلسيين الذين قدموا إلى مدينة البليدة، كان لديهم تأثيرهم، حيث كانت لديهم علاقة وطيدة بين الفرد والطبيعة، وهو ما عكسه البستان الذي كانت تغرس فيه كل أنواع الأزهار والورود، التي إلى جانب دورها في تزيين المنازل، كانت أيضا تعد موردا للرزق، من خلال استخلاص العطور منها.

من جهة أخرى، أكد المتحدث، أن التغير العمراني الذي طرأ على مدينة الورود، شأنه شأن باقي الولايات، لم يخدم تراث وهوية المدن الجزائرية، ولعل العينة من مدينة الورود التي بدأت تفقد هذه الصفة، بسبب التغير العمراني وزحف الإسمنت عليها، غير أنه، من جهة أخرى، يعتبر ضرورة لمواكبة العصر الذي يفرض الخروج من النمط القديم، والانتقال إلى النمط المعاصر. ويرد المختص: "غير أن هذا الانتقال في حد ذاته، لابد أن يتم بذكاء، بحيث نضمن الانتقال، لكن بالطريقة التي لا نضيع معها هويتنا وأصالتنا، ولعل أبسط مثال على ذلك، نجد المجتمع الياباني الذي لا يزال متمسكا بعاداته و تقاليده في المجال العمراني، رغم كل التطورات التي شهدها، سواء في الجانب العمراني أو التكنولوجي". مشيرا في السياق، إلى أن مدينة البليدة، زحف عليها الإسمنت المسلح بطريقة غير مدروسة، الأمر الذي ضيع ملامح المدين القديمة والعريقة.

الحفاظ على الموروث والهوية التي ترتبط بالنسيج العمراني، حسب البروفيسور شناوي، يتطلب من الوزارة الوصية، العمل على عدة مجالات، منها المجال التعليمي الذي يقوم على تحسيس المتمدرسين، عن طريق تنظيم خرجات ميدانية إلى الأحياء، وتحبيبهم في كل ما يرتبط بالموروث التقليدي، إلى جانب خرجات للاطلاع على البنايات العريقة، والكشف عن بعض العادات المرتبطة بها، كغرس الأزهار التي عرفت بها ولاية البليدة واتخذت منها تسميتها، وقد أكد المختض على ضرورة عودة المعاهد المتخصصة في تكوين الهندسة المعمارية  والتعمير، للنظر في محتوى التكوين وإدراج مقاييس تأخذ بعين الاعتبار، كل ما هو عمران، يحافظ على الهوية الوطنية، مع مواكبة العصر طبعا، فمثلا، عند تجديد الطراز، لابد من الحفاظ على بعض العناصر المرتبطة بالهوية وتعكس تقاليدنا، يختم المتحدث.