تمثل نبض الحياة بعنابة
المقاهي الشعبية.. كلمة سر تجمع كل فئات المجتمع

- 141

❊ ذاكرة حيّة وروح متجددة في قلب بونة
تتنفس مدينة عنابة على إيقاع حكايات تُروى على موائد المقاهي، حيث لا تقتصر هذه الأماكن على كونها مجرد فضاءات لتناول المشروبات، بل تمثل نبض الحياة الاجتماعية، وروح التواصل بين أبناء بونة. في قلب هذه المدينة يبرز "مقهى الشعب" كرمز خالد، حيث يلتقي سكان عنابة والزوار على حد سواء، في مكان يعكس عمق الترابط الاجتماعي، ودفء اللقاءات اليومية. مقهى الشعب ليس مجرد اسم، بل هو كلمة سر، تجمع كل فئات المجتمع في لحظة واحدة من الود والحميمية.
منذ عقود بعيدة لعبت المقاهي في عنابة دورا مركزيا في الحياة اليومية للسكان. لم تكن مجرد محلات لبيع القهوة والشاي، بل كانت وماتزال مساحات للقاء، والتشاور، والتفاعل الإنساني. فيها يتقاطع التاريخ مع الحاضر، حيث اجتمعت العائلات، وخُططت المناسبات، وتم تبادل الأخبار، ووُلدت حتى قصص الحب والزواج. الذاكرة الجماعية لعنابة تحتفظ بصور حيّة من مقاهٍ كانت بمثابة "الصالون المفتوح" للمدينة: فلكل حيٍّ مقهاه، ولكل زبون طاولته المعتادة، ولكل ناصية حكاياتها.
" مقهى الشعب".. معلَمٌ يجمع كل أطياف بونة
في قلب مدينة عنابة يتربّع "مقهى الشعب" كأحد أهم الرموز الشعبية والاجتماعية. ويُعد هذا المقهى حتى اليوم، نقطة التقاء مرجعية، يُضرب به المثل حين يُقال: "نلتقي في مقهى الشعب" ؛ وكأنها كلمة سر يفهمها الجميع. ومنذ نشأته شكّل المقهى فضاءً عاما يتجاوز الطبقات؛ حيث يجلس الأستاذ إلى جانب التاجر، والعامل بجوار الشاعر، والزائر من قسنطينة مع المضيف العنابي. هذا التنوع الإنساني منح المكان روحا لا تنطفئ.
دفء البساطة وعمق العلاقات اليومية
المقاهي الشعبية في عنابة ماتزال تحافظ على سحرها الخاص. هناك حيث البلاط العتيق، والكراسي البلاستيكية، والطاولات المتواضعة، تختلط رائحة القهوة بنقاشات السياسة، والرياضة، وهموم الحياة اليومية. المقهى الشعبي يشبه البيت الثاني، خصوصا لكبار السن، ولمن يعيشون بمفردهم، حيث يجدون فيه من يصغي إليهم، ويتحدث معهم، ويمنحهم الإحساس بالانتماء.
مواكبة العصر بنكهة شبابية
إلى جانب المقاهي الشعبية ظهرت بقوة المقاهي العصرية في عنابة، بتصاميمها الجذابة، وخدماتها المتقدمة، وبيئاتها الملائمة للعمل والدراسة. الطلبة الجامعيون يجدون فيها ملاذا للمراجعة الجماعية، أو للراحة بعد يوم دراسي طويل. هناك "الويفي"، وشحن الهواتف، ومقابس للحواسيب، وموسيقى هادئة تحفّز التركيز.
حاضنة للفن ومسرح للمواهب
عنابة مدينة الفنّ والطبوع الموسيقية المتنوعة. ومن الطبيعي أن تكون مقاهيها فضاءات تحتضن الإبداع، والتعبير الثقافي. من جلسات الغناء الشعبي إلى أمسيات الشعر، ومن عروض المالوف إلى نقاشات الفنانين والكتّاب، تحوّلت بعض المقاهي إلى مسارح مصغّرة، تشعّ فيها عنابة بثقافتها، وحيويتها.
مساحة حرة للمرأة في قلب المدينة
في السنوات الأخيرة، ظهرت المقاهي المخصصة للنساء أو تلك التي تُفضّلها النساء لجوّها المريح. وهي ظاهرة تعكس تحوّلاً مهمّا في المجتمع العنابي، وتقدما في نظرة الناس إلى دور المرأة في الفضاء العام. هذه الفضاءات أصبحت رمزا لمشاركة المرأة في الحياة الاجتماعية، وتأكيدا على حقّها في أن تكون جزءا من المشهد اليومي للمدينة. منها انطلقت مبادرات لمساعدة عائلات محتاجة، أو جمع تبرعات لجنازة أو علاج، أو حتى تنظيم أعراس بسيطة لشباب لا يملكون الإمكانيات. المقهى هنا لا يُقدّم فقط القهوة، بل يُقدّم يد العون، والدفء الإنساني، والتكافل الذي يشبه العائلة الكبيرة.
حركة اقتصادية تُنعش الأحياء
بعيدًا عن البعد الاجتماعي، تلعب المقاهي دورا اقتصاديا حيويا، فهي توفر عشرات مناصب الشغل، وتحرك الدورة الاقتصادية في الأحياء، وتدعم التجارة المحلية من خلال ارتباطها بالمخابز، والمتاجر، والموردين.
ولا يمكن تخيّل عنابة دون مقاهيها؛ فهي ليست مجرد مبانٍ بها كراسي وطاولات، بل ذاكرة حيّة، ومركز للمشاعر، وفضاء يجمع الأرواح قبل الأجساد. فيه تتلاقى الأجيال، وتُبنى الصداقات، وتُنسج القصص، ويظل فنجان القهوة شاهدا على كل شيء: على الماضي الذي لا يُنسى، وعلى الحاضر الذي لا يهدأ، وعلى الغد الذي يُصنع من تفاصيل بسيطة... تبدأ دائمًا بقعدة في مقهى.