من رمز للهوية إلى بضاعة منسيَّة
الفضة تفقد بريقها أمام المعادن المغشوشة

- 148

لطالما عُدت الفضة في الثقافة الجزائرية القديمة، من بين أهم وسائل حفظ الثروة. فإلى جانب جمالها وارتباطها بالتراث، كانت تُقتنى وتباع عند الحاجة تماما كالذهب. غير أن الفضة فقدت مكانتها شيئا فشيئا، حتى بات بيعها في بعض الأحيان، أمرا شبه مستحيل رغم قيمتها الجوهرية كمعدن نفيس.
وكانت الفضة في المجتمع الجزائري أكثر من مجرد معدن ثمين؛ كانت وسيلة آمنة لتخزين القيمة، ومصدرا للزينة المتجذرة في التراث. فقد اعتادت العائلات اقتناء الحلي الفضية ليس فقط لأغراض التجمل، بل، أيضا، كاستثمار يعاد بيعه عند الحاجة. غير أن مكانة الفضة تراجعت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة حتى أصبحت تعامَل كسلعة ثانوية لا تحظى بالاهتمام، بل يجد كثير من الناس صعوبة في بيعها، أو الحصول على مقابل عادل لها.
الفضة في الذاكرة الجماعية الجزائرية
وفي الأزمنة الماضية خصوصا في المناطق الريفية وجنوب الجزائر، كانت الفضة تُعد رمزا للثراء، والذوق الرفيع. كانت العائلات تقتنيها في شكل حلي تقليدية تورَّث عبر الأجيال. وتُعد مخزونا ماديا يمكن تحويله إلى سيولة في الأزمات، بل إن بعض العائلات كانت تفضل الفضة على الذهب؛ نظرا لسعرها المعقول، وسهولة تسييلها، وتداولها خصوصا لدى الصائغين والأسواق الشعبية. لكن لم يعد المنطق نفسه اليوم؛ إذ فقدت بذلك الفضة بريقها وسط علب مجوهرات النساء. وتحولت الى مجرد قطع تزيين لها قيمة في الشراء لكن تفقد تلك القيمة مباشرة عند محاولة بيعها.
انهيار قيمة الفضة في السوق الشعبي
حول هذا الموضوع تحدّث ياسر مزراع، أستاذ الاقتصاد بجامعة الجزائر إلى "المساء" قائلا: "لم تعد الفضة اليوم تُقتنى لتخزين القيمة، بل بالكاد تشترى كزينة. ومع ذلك تواجه صعوبة كبيرة في إعادة بيعها" . وأضاف أنّ كثيرا من الجزائريين يفاجَأون عند محاولة بيع حلي من الفضة، ليقال لهم ببساطة: " ما نشريش الفضة "، أو يُعرض عليهم ثمن بخس لا يعكس وزنها الحقيقي أبدا".
وقال المتحدث: " الملاحَظ في السنوات الأخيرة، أن محلات المجوهرات باتت تركز بشكل شبه حصري، على الذهب، فيما تحولت الفضة إلى سلعة ثانوية، تُعرض في بعض المحلات كهامش إضافي، أو تُترك، فقط، للطلب الخاص، حتى إنها باتت تباع في طاولات على أرصفة الطرقات، وداخل الأسواق الشعبية، وحتى محملة في اليد مباشرة؛ وكأن لا قيمة لها بتاتا! ".
وأرجع الخبير الاقتصادي هذا التحول الى عدة أسباب؛ قال: "الفضة فقدت دورها كمخزن للقيمة بسبب تحولات في سلوك المستهلك الجزائري، وتغيرات في السوق العالمية للمعدن، بالإضافة إلى غياب ثقافة التثمين المحلي "، مضيفا :«في السابق، كانت الفضة تملك قيمة ثقافية واجتماعية، وهو ما كان وراء زيادة الطلب عليها. أما اليوم ومع سيطرة الثقافة الاستهلاكية، يبحث الأفراد عما يمكنهم تسييله بسهولة، وتحقيق ربح منه بسرعة؛ كالذهب الذي ظل صامدا بفضل ارتباطه بالبنوك، والاستثمار، وحتى الاحتياطي النقدي للدولة. أما الفضة فخرجت من دائرة الاهتمام الرسمي والشعبي في آن واحد. وأفقدها ذلك البريق الأبيض" .
ونبّه المختص الى أن سوق الفضة غير منظم في الجزائر؛ فلا توجد جهة تضمن سعرا مرجعيا للفضة. ولا توجد بورصة محلية للمعدن، وهذا ما يجعل إعادة بيعها أمرا غير مضمون، بل مجازفة، ومخاطرة كبيرة.
الفقدان الثقافي قبل الاقتصادي
لا يقتصر الأمر على الجانب الاقتصادي فقط، بل يبدو أن الفضة فقدت حتى بريقها الرمزي؛ يقول ياسر: " كثير من الشباب الجزائريين لم يعودوا يرون في الحلي الفضية سوى "موضة قديمة"، بينما كانت الأجيال السابقة تراها مفخرة، تُظهر الهوية والانتماء. وحتى الصناعات التقليدية التي كانت تعتمد على الفضة كمادة أساسية، مثل الحلي القبايلية أو التارقية، تعاني من ضعف الإقبال عليها، وبالتالي قلة الطلب على المنتج تجعله يفقد قيمته الحقيقية حتى وإن كان جوهره ثمينا ". وعلى الصعيد الدولي ـ يختم الخبير حديثه ـ " ماتزال الفضة تحافظ على قيمتها كمعدن نفيس يُستخدم في عدة مجالات، من بينها الصناعة، والتكنولوجيا، إلى جانب استخدامها في الاستثمار ". ففي الأسواق العالمية ـ يضيف ـ " يتم تداول الفضة في البورصات. وتحدَّد أسعارها يوميا حسب العرض والطلب عكس ما يحدث محليا، وهذا يبين أن تراجع مكانة الفضة في الجزائر لا يعني أنها فقدت قيمتها الحقيقية، بل هو نتيجة ظروف محلية فقط ".