"البوراك العنابي"... أكلة تختزل هوية مدينة

- 275

تغلغلت نكهة "البوراك العنابي" في الذاكرة الجماعية لسكان مدينة عنابة، لتتحول من طبق بسيط في شكله، إلى رمزٍ متأصل في الثقافة المحلية، لا تغيب عنه المناسبات، ولا تخلو منه موائد الأعياد، ولا يغيب عن طاولات الإفطار في شهر رمضان. يمثل "البوراك العنابي" أحد أبرز الأطباق في الشرق الجزائري، وقد حافظ على تألقه على مر الأجيال، محافظًا على مكانته كطبق مقبلات لا يُنافس، ووجبة تقليدية استطاعت أن تواكب العصر، دون أن تتنازل عن روحها الشعبية وعمقها التراثي.
أصول تاريخية تعود للعهد العثماني
يعود أصل "البوراك العنابي" إلى العهد العثماني، حينما جلبت الجيوش والبعثات الثقافية العثمانية إلى الجزائر، العديد من أطباق المطبخ التركي، وكان "البوراك" من بينها. غير أن عنابة، المدينة المتوسطية العريقة، أضافت لهذا الطبق بُعدًا محليًا، فطورت مكوناته، وأضفت عليه لمستها الخاصة، ليُصبح "البوراك العنابي" بصيغته الحالية، المختلف تمامًا عن نظائره في باقي المدن الجزائرية أو بلدان المنطقة.
"الديول"... سر القرمشة وروح الطبق
البداية دومًا مع ورق "الديول"، المكون الأساسي الذي يصنع الفرق. تصنع نساء عنابة هذا الورق يدويًا، باستخدام الدقيق والماء، على صفيحة حديدية ساخنة، في طقس يومي يحمل في طياته طابعًا تراثيًا واجتماعيًا. "ديول" عنابة تختلف جذريًا عن تلك الجاهزة المعروضة في المحلات، من حيث القوام والطراوة والنكهة، مما يجعل منها سرا من أسرار تميز هذا الطبق.
حشوة غنية تُجسد تنوع المطبخ العنابي
تتميز الحشوة بتنوعها وغناها، وتشكل جوهر "البوراك"؛ البطاطا المهروسة، اللحم المفروم المطهو بتوابل محلية، البصل، البقدونس، الزيتون، الجبن، البيض، وأحيانًا الجمبري والحبار أو حتى التونة، تُمزج جميعها لتنتج حشوة متكاملة المذاق، متوازنة القوام، تلبي مختلف الأذواق. وتختلف طرق لف "البوراك" بين المثلث، والمستطيل، وحتى الشكل "السيغاري" العصري، لكنه في كل حالاته يحافظ على هويته.
طبق يحضر في كل المناسبات
لا تغيب "البوراكة" عن أي مائدة في عنابة، سواء في المناسبات الدينية، كعيد الفطر والأضحى، أو في الأعراس والولائم العائلية. لكنها في رمضان، تأخذ موقع الصدارة، حيث تُحضر بعناية فائقة، وتُقدَّم ساخنة مباشرة بعد أذان المغرب، لتكون أول ما يتذوقه الصائم بعد يوم من الصيام. وفي حفلات الخطوبة والختان، يُعتبر "البوراك" مقبلًا راقيًا يدل على ذوق العائلة وجودة الضيافة.
من المطبخ إلى السياحة... "البوراك" يروج لعنابة
لقد ساهم "البوراك العنابي"، في التعريف بعدد كبير من المطاعم الشعبية، وحتى العصرية في عنابة، حيث أصبح أحد العوامل الجاذبة للسياح والمصطافين. فالمطاعم التي تتفنن في تقديم "البوراك" بنكهات متعددة وجودة عالية، تحولت إلى محطات ضرورية لكل زائر للمدينة. ولم يعد تناول "البوراك" مجرد تجربة غذائية، بل أصبح طقسًا سياحيًا لا يُفوت.
على كورنيش عنابة، الممتد على سواحلها الساحرة، يُباع "البوراك" في شكل "سيجار" الشهير، بحشوة بسيطة تُهيمن عليها البطاطا، في عربات صغيرة أو أكشاك موسمية خلال فصل الصيف. هذه الوجبة السريعة الشعبية، المقرمشة والدافئة، أصبحت رمزًا من رموز المصيف العنابي، يتذوقها الزوار وهم يستمتعون بنسيم البحر ومنظر الغروب. إنها التجربة التي لا تُنسى، والمذاق الذي يُروى عنه طويلاً بعد مغادرة المدينة.
اقتصاد منزلي وحفاظ على الحرفية
تجاوزت أهمية "البوراك العنابي" البعد الغذائي والثقافي، لتتحول إلى نشاط اقتصادي منزلي متكامل. إذ أن الكثير من النساء في عنابة، وجدن في تحضير ورق "الديول" فرصة لكسب الرزق، عبر بيعه للمخابز أو مباشرة للمنازل. هذه الصناعة اليدوية، التي تتطلب مهارة وصبرًا، باتت مصدر فخر ومورد دخل، كما ساهمت في الحفاظ على حرفة تقليدية من الاندثار.
هوية مطبخية لا تتغير
يمثل "البوراك العنابي" مرآة لهوية أهل المدينة، وذوقهم الرفيع، وارتباطهم بجذورهم. هو طبق يعكس التقاء البحر بالجبال، والتاريخ بالتجديد، والبساطة بالأصالة. وفي كل مرة يُحضر، تُستحضر معه قصص الجدات، ودفء البيوت، وأجواء الاحتفال.
في زمن السرعة والعولمة، بقي "البوراك العنابي" ثابتًا في مكانه، يرفض أن يكون مجرد "وصفة" تُحاكى، بل تجربة تُعاش، وتقاليد تُنقل بمحبة من جيل إلى آخر. هو أكثر من طبق، هو "ذاكرة مطهية" تعبر عن مدينةٍ لها نكهة خاصة، لا تُشبه أحدا، وطبق كلما قُدم، روى حكاية عنابة بعبقها، وأصالتها، وكرمها الذي لا يُحد.