لصناعة تلميذ متوازن ومبدع
"الأسرة والمدرسة تحالفٌ تربوي" في ملتقى بعنابة

- 239

تظهر في خضم التغيرات الاجتماعية والنفسية المتسارعة التي يشهدها عالم الطفولة، الحاجة أكثر من أي وقت مضى، إلى تفعيل أطر التعاون بين المؤسسات التربوية والأسرة، باعتبارهما الركيزتين الأساسيتين في تنشئة الطفل، وبناء شخصيته المتوازنة. فالأطفال لا يكبرون فقط بين جدران المدرسة، بل ينمون أولاً في حضن الأسرة، ويستكملون نموهم المعرفي والوجداني داخل الفصول الدراسية. ولهذا فإن أي خلل في التواصل أو التنسيق بين هذين الفاعلين، قد ينعكس سلبا على المسار التربوي والنفسي للطفل.
وفي هذا السياق، وتحت إشراف مديرية الشباب والرياضة لولاية عنابة، وبالتعاون مع ديوان مؤسسات الشباب، احتضن مركز الترفيه العلمي رايس صالح، فعاليات الطبعة الأولى للملتقى التربوي، الموسوم بـ "طرق تعامل الآباء مع أبنائهم ومدى أهمية تدخّل المؤسسة التربوية في مساعدة الأطفال"، من تنظيم النادي العلمي النفسي لمرافقة الشباب والطفولة. وقد شكل هذا الحدث مساحة خاصة بالنقاش، وتبادل الخبرات بين مختصين في علم النفس والتربية، وأولياء ومربين، بهدف التأسيس لشراكة حقيقية ومثمرة بين الأسرة والمدرسة.
الأسرة والمدرسة تكامل في الأدوار والمسؤوليات
الأسرة، حسب المتدخلين، هي أول فضاء اجتماعي يحتضن الطفل، فهي المدرسة الأولى التي يتشرب فيها المبادئ والقيم، ويتعلم من خلالها أنماط السلوك الأساسية. وفيما بعد تلعب المدرسة دورا مكملاً، حيث تنقله إلى فضاء أوسع، يعزز عنده المعارف والمهارات الاجتماعية.
إن العلاقة بين الأسرة والمدرسة ليست علاقة بديلة، بل هي علاقة تكاملية، قائمة على التشارك في الأدوار التربوية والنفسية. وقد ناقش الملتقى التربوي، كذلك، العديد من المحاور الجوهرية، من أبرزها: "أساليب التربية الحديثة، وسبل التواصل الفعّال بين الآباء والأبناء"، و«دور المدرسة في دعم الطفل نفسيا واجتماعيا". وقد أكد المتدخلون أن تحسين جودة العلاقة بين الأسرة والمدرسة يُعد شرطا أساسيا لنجاح العملية التربوية برمتها.
وحسب بعض المختصين المشاركين في الملتقى، في وقت سابق عُرضت تجارب ونماذج ناجحة عن برامج تشاركية تجمع الأولياء والمعلمين. فقد تم تنظيم لقاءات دورية لتقييم تقدم الأطفال، ومناقشة مشاكلهم التربوية والسلوكية، إلى جانب إشراك الأسر في الرحلات المدرسية، والأنشطة الترفيهية والتعليمية. هذه الممارسات تعزز من الثقة المتبادَلة، وتخلق بيئة حاضنة لتطور الطفل ونموه في إطار من التفاهم والدعم المتبادَل.
وفي سياق متصل ورغم الجهود المبذولة، حسب آراء الحاضرين في الملتقى، لاتزال هناك تحديات تحول دون تحقيق الشراكة المنشودة بين الأسرة والمدرسة، أبرزها الفوارق الثقافية والاجتماعية التي قد تعرقل التفاهم بين الطرفين، ونقص الإمكانات المادية والبشرية اللازمة لتنظيم برامج تشاركية فعالة، وضيق وقت الأولياء والمعلمين، ما يحد من فرص التواصل المنتظم.
ولتجاوز هذه التحديات قدّم المشاركون في الملتقى مجموعة من التوصيات، أهمها: تنظيم دورات تكوينية وورشات لفائدة الأولياء والمعلمين، تركز على أهمية التعاون والتواصل، وتوفير منصات إلكترونية تسهل تبادل المعلومات، ومتابعة الأداء الدراسي للأطفال، وكذا دعم المبادرات المجتمعية والتربوية التي تعزز من الحوار بين جميع المتدخلين في حياة الطفل.
وعليه لبناء شخصية الطفل المتزنة نفسياً واجتماعياً، لا بد من تآزر حقيقي بين الأسرة والمدرسة. فكل طرف يحمل على عاتقه مسؤولية مشتركة تجاه تنشئة جيل قادر على مواجهة تحديات العصر بثقة ووعي. ويُعد هذا الملتقى التربوي خطوة أولى نحو ترسيخ ثقافة التعاون المستدام، ووضع أسس علمية لتربية حديثة تراعي حاجات الطفل النفسية والاجتماعية، وتؤمن بأن التربية مسؤولية جماعية، تبدأ من البيت، وتُستكمل في المدرسة.
التراث يعود لديكور البيوت العنابية
النحاس يتصدر مشهد الزينة والذوق الرفيع
شهدت مدينة عنابة خلال الفترة الأخيرة ظاهرة لافتة، تمثلت في الإقبال الكبير من طرف العائلات على اقتناء التحف والأكسسوارات النحاسية، التي استعادت مكانتها كعنصر أساسي في تزيين البيوت، لا سيما الصالونات. هذا التوجه الذي يعكس حنيناً عميقاً "للزمن الجميل"، يُعد في نظر الكثيرين، بمثابة عودة إلى الجذور، وإحياء لروح الأصالة والتراث، التي طالما ارتبطت بفن تزيين البيوت الجزائرية، وخاصة العنابية منها.
وتتنوع القطع النحاسية المعروضة في المحلات والأسواق الشعبية، بين المباخر التقليدية، والأباريق، والصواني المزخرفة، والمرايا ذات الإطارات النحاسية، والطواجن والمزهريات. وكلها تتميز بنقوش دقيقة يدوية الصنع، توحي بالفن والمهارة اللذين طالما ارتبطا بالحرفيين الجزائريين، خاصة أولئك القادمين من مدينة قسنطينة، المعروفة بورشاتها العريقة في صناعة وتزيين النحاس.
من "قطعة ديكور" إلى رمز للهوية
لم يعد النحاس مجرد مادة تُستخدم للزينة، بل أصبح رمزاً للهوية الثقافية والاجتماعية، ودليلاً على تمسك العنابيين بتراثهم وتقاليدهم العريقة. وتحرص العديد من العائلات خاصة عند تأثيث البيوت الجديدة أو تجديد الصالونات، على إدخال عنصر النحاس كجزء لا يتجزأ من الديكور، لإضفاء لمسة من الفخامة والدفء، حيث يرى الكثيرون أن وجود قطعة نحاسية في البيت يعكس الذوق الرفيع، والانتماء إلى الأصالة.
هذا التوجه لم يقتصر على العائلات فحسب، بل أصبح جزءاً لا يتجزأ من تجهيز العرائس، إذ تُقبل المقبلات على الزواج في عنابة، على اقتناء قطع نحاسية كجزء من جهاز العروس، خاصة تلك المصنوعة يدوياً، والمزينة بنقوش تقليدية دقيقة، لما تحمله من دلالات رمزية، مثل الاستقرار، والرفاه، والارتباط بالجذور.
إحياءٌ للصناعة التقليدية وازدهار للأسواق
ساهمت عودة النحاس إلى واجهة الديكور المنزلي بشكل ملحوظ، في انتعاش الأسواق التي تعرض هذا النوع من المنتجات، خاصة تلك المتخصصة في الصناعات التقليدية. وقد لوحظ توافد كبير من العائلات على المحلات المتخصصة، ما أدى إلى ارتفاع محسوس في أسعار القطع النحاسية، لا سيما تلك المصنوعة أو المزينة في قسنطينة، حيث يتطلب العمل عليها وقتاً وجهداً وتقنيات دقيقة.
وتشير بعض التقديرات إلى أن الأسعار تضاعفت في بعض الحالات، بالنظر إلى الطلب المتزايد، وتكاليف الإنتاج اليدوي. ويؤكد بعض التجار أن الزبائن رغم الارتفاع، لا يترددون في اقتناء هذه التحف، ويرون أنها تستحق قيمتها، لأنها ليست فقط للزينة، بل هي قطع فنية، تعكس تاريخاً طويلاً من الحرفة والإبداع، وتحمل في طياتها روح الأجداد، وذكريات البيوت القديمة.
نحو دعم الحرفيّين والمحافظة على التراث
في ظل هذا الإقبال المتزايد، يرى عدد من المهتمين بالشأن الثقافي والتراثي، أن الوقت قد حان لتوفير دعم أكبر للحرفيين العاملين في مجال النحاس، خاصة أولئك الذين مازالوا يستخدمون الطرق التقليدية في التصنيع. ويطالب البعض بفتح معاهد لتكوين الشباب في هذه الحرف، وتنظيم معارض دورية لعرض المنتوجات النحاسية الجزائرية، بهدف الحفاظ على هذا التراث، وخلق فرص عمل جديدة، تعزز الاقتصاد المحلي.
كما يمكن هذا التوجه أن يفتح آفاقاً جديدة في مجال السياحة الثقافية، من خلال الترويج للمنتوجات النحاسية التقليدية؛ كجزء من الهوية الجزائرية الأصيلة، وجذب الزوار من داخل وخارج الوطن؛ لاكتشاف جمال ودقة هذه الحرفة، التي تستحق أن تكون جزءاً من المشهد الثقافي الوطني.
وفي الأخير، يبقى النحاس أكثر من مجرد عنصر تزييني في صالونات العائلات العنابية، بل هو تعبير عن ذوق فني رفيع، وحنين دفين إلى الماضي الجميل، وجسر يربط بين الأجيال. إنه معدن له روح، يُعيد إحياء البيوت، ويمنحها دفءاً لا توفره المواد الحديثة، ويعيدنا دائماً إلى حيث تبدأ الحكايات في حضن التقاليد، وبين تفاصيل التراث.