بوريس جونسون يدخل التاريخ بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي
أي مستقبل لعلاقات ما بين ضفّتي بحر المانش؟

- 612

تابع آلاف البريطانيين الذين قدموا من مختلف مناطق البلاد أمام مقر مجلس العموم، لحظة بلحظة العد العكسي لثواني الدقيقة الأخيرة التي رسمت الطلاق بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، تحت أهازيج وفرحة عارمة وتصفيقات مدوية رافقها عزف النشيد الوطني البريطاني إيذانا ببداية عهد جديد.
وبدأت المملكة المتحدة أمس، حياة جديدة بعد إتمام هذا الطلاق وقد حقق مؤيدو عملية "بريكست" مبتغاهم ولكنهم استفاقوا أمس، وسط تساؤلات حول قدرة بلادهم التكيّف مع تبعات هذه الخطوة سبعة وأربعون عاما من زواج مفروض أملته تطورات واقع دولي مفروض آنذاك، ولكن أسبابه باتت غير قائمة في الوقت الحالي.
وهي أسئلة تفرض نفسها خاصة وأن علاقات بريطانيا مع دول الاتحاد الأوروبي علاقات اقتصادية وجمركية وعسكرية قوية ومعقّدة يصعب فك الارتباط بشأنها بالسهولة التي قد يتصورها البعض، كونها علاقات ترسخت على مدى عقود وعايشت أطوارها أجيال من البريطانيين.
ورغم أن هؤلاء يطرحون سؤالا حول ما يخبئه لهم الغد لهم إلا أنهم أكدوا أن الطلاق كان يجب أن يقع بسبب أن العلاقات المتوترة بين لندن وبروكسل لم تكن "سمنا على عسل"، حيث عرفت هزّات قوية على مدى سنوات بما يفسر تفاؤلهم ببداية عهد جديد ستعمل فيه بريطانيا على إعادة ترتيب بيتها بعيدا عن قوانين وشروط الوحدة.
وحرص الوزير الأول البريطاني بوريس جونسون، على التأكيد في هذه اللحظة التاريخية أن أهم شيء يمكن قوله هذه الليلة إنها ليست النهاية، ولكن بداية فصل جديد بمجرد بزوغ فجر هذا اليوم التاريخي.. في إشارة إلى يوم أمس الأحد.
وبدا بوريس جونسون، الوزير الأول البريطاني في سياق ربحه رهان الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، أكبر المنتشين بهذا الإنجاز الذي أدخله تاريخ المملكة من بابه الواسع، وحتى التاريخ الأوروبي عندما قامر بمستقبله السياسي وأصر على حتمية "تحقيق بريكست" دون اكتراث بالمصير الذي عرفته سابقته تريزا ماي، التي دفعت ثمن فشلها في تحقيق معادلة الخروج مع نواب بريطانيين عارضوا كل نتائج محادثاتها مع الاتحاد الأوروبي، أرغمتها في النهاية على رمي المنشفة.
وقال جونسون، إنه رغم المستقبل الغامض الذي ينتاب البريطانيين إلا أنه اعتبر إتمام عملية الخروج بمثابة بداية عهد ذهبي لبلاده، وأضاف لقد غادرنا الاتحاد الأوروبي هذه الليلة في أروع تحول في حياة المملكة المتحدة، حاثا مواطني بلاده على وحدة الصف من أجل استغلال كل الفرص التي سيمنحها "بريكست" لبريطانيا.
وإذا كانت السلطات الرسمية وكل البريطانيين أكدوا أن قرار ليلة السبت إلى الأحد، لن يحدث تغييرات جذرية في نمط تسيير شؤون بلدهم أو حياتهم اليومية في القريب العاجل، إلا أن ذلك يبقى أمرا حتميا بمجرد انتهاء المرحلة الانتقالية، وقطع علاقة الود بصفة نهائية بين ضفّتي بحر المانش يوم 31 ديسمبر القادم، وفتح أخرى بمواصفات مغايرة في الفاتح جانفي 2021.
وهي الحقيقة التي أكد عليها السفير الأوروبي الجديد في المملكة المتحدة البرتغالي جاواو فال دي المايدة، الذي تسلّم مهامه أمس السبت، وأكد أنه متشوق لإقامة علاقات جديدة وقوية بين الاتحاد وبريطانيا.
ولم تكن نشوة الانتصار التي شعر بها الوزير الأول البريطاني، هي نفسها في استكتلندا التي شعر سكانها بخيبة أمل كبيرة، حيث قضوا ليلتهم في ساحات العاصمة ادنبورغ تحت أضواء الشموع تعبيرا عن أسفهم لهذا الخروج، ولكنهم أكدوا أن حلمهم يبقى العودة يوما إلى تحت مظلة الاتحاد الأوروبي بمجرد حصول اسكتلندا على استقلالها من تحت التاج البريطاني.
ويمكن القول إن العام الجاري الذي حدد كمهلة لتحقيق الانفصال التدريجي سيكون عسيرا بسبب التباين القائم بين الجانبين حول تحديد مستقبل العلاقات بينهما، وخاصة ما تعلق بقضايا المبادلات التجارية ومسائل التعاون الأمني، بالإضافة إلى الصيد التي شكلت منذ انضمام المملكة المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي سنة 1973، نقاط خلاف قوية وأدت في كثير من المناسبات إلى جفاء حاد، وكادت في مرات متعددة أن تؤدي إلى إحداث شرخ بهزّات ارتدادية قوية.
وبقدر ما كانت الخيبة كبيرة في مختلف العواصم الأوروبية بسبب قطع الصلة بينها وبين لندن، ابتهجت الإدارة الأمريكية لمثل هذه الخطوة واعتبرتها تحررا لدولة أنغلوفونية كفيلة بأن تقيم حلفا اقتصاديا وعسكريا معها، ضمن محور جديد بين ضفّتي الأطلسي سيكون حتما منافسا للاتحاد الأوروبي، الذي بدأ يدخل في خلافات حادة مع الإدارة الأمريكية الحالية، بسبب مواقف رئيسها دونالد ترامب، الذي شجع على تحقيق عملية "بريكست" من أجل ترسيم علاقات جديدة بين بلاده والمملكة المتحدة.
وهو ما أكده كاتب الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، الذي عبّر عن استعداد بلاده إقامة علاقات قوية مع حليفه التاريخي. وهو ما يفسر توجس باريس برلين وروما ومدريد وبروكسل من تبعات عملية "بريكست" وجعلها تتأسف للمآل الذي ضرب أقدم تكتل اقتصادي وسياسي وعسكري في العالم. وسط مخاوف قوية من احتمال ظهور نزعات للانسحاب في دول أخرى، وخاصة في ظل الصعود القوي للأحزاب القومية والوطنية التي بدأت تتحرك من أجل الحث على الأخذ بالتجربة البريطانية التي شكّلت أول تآكل للاتحاد الأوروبي، وضربة لحلم الوحدة الأوروبية.
وهو ما جعل الرئيس الفرنسي، ايمانويل ماكرون، يؤكد أمس، على ضرورة أخذ العبرة من هذا الإنذار التاريخي، بما يحتّم على الأوروبيين التفكير مليا في ما يجري داخل المنتظم الأوروبي.