التشريعيات: سقوط أربع «مغالطات»

- 2027

اعتبر وزير الداخلية والجماعات المحلية، العملية الانتخابية منذ بدايتها إلى نهايتها بمثابة أول تمرين انتخابي في ظل الدستور الجديد. كلام كهذا يهدف أيضا إلى القول وتأكيد أن كل تجربة أو تمرين جديد تشوبه بعض النقائص أو الاختلالات المرتبطة بطبيعة وصعوبة التجربة نفسها نتيجة قوانين أو ميكانيزمات جديدة غير مألوفة أدخلت في ذلكم التمرين أو التجربة. لكن بالتأكيد تتدارك في استحقاقات قادمة.
سلطة الإشراف على تنظيم التشريعيات وعلى لسان وزير الداخلية، اعتبرت هذه الانتخابات بمثابة «عرس ديموقراطي» كشف فيه الجزائريون عن درجة عالية من الوعي، عبّر فيها الناخبون عن تجنّدهم الدائم حين يجد الجد ويصبح الأمر مرتبطا بقضية وطنية مصيرية.
وقال السيد بدوي: «أن كل المخاوف التي سبقت التشريعيات لم يعد لها مكان. وأن الانتخابات جرت بحرفية عالية وتمكن تام لتعزّز مسارا ديمقراطيا تعزز بضمانات دستورية غير مسبوقة «والتزامات شخصية من رئيس الجمهورية».
فاق عدد الذين ألقوا بأوراقهم في صناديق الاقتراع في الرابع ماي 8 ملايين ناخب. وهو ما يمثل نسبة 25 , 38 بالمائة. هو ما يفوق أيضا ثلث المسجلين في القوائم الانتخابية. نسبة مقبولة في نظر وزير الداخلية خلال ندوته الصحفية أمس، اعتبارا أن الانتخابات التشريعية في الغالب لا تعرف نسب مشاركة عالية بما في ذلك في دول أخرى، على غرار الرئاسيات والبلديات.
ما سبق يتعلق بالمقاربة الرسمية لانتخابات الرابع ماي. لكن يمكن أن نستنتج قراءة أخرى لهذه الانتخابات.
مباشرة نقول إن الجزائريين الذين لبّوا النداء واستجابوا للصندوق من خلال الانتخاب أسقطوا أربع مغالطات شكلت لغوا سياسيا في عديد المنابر السياسية والإعلامية، داخليا وخارجيا. بلغت في بعض التصريحات إلى أن الجزائر فوق كف عفريت وبركان يتآكل. ونعقوا بأن التشريعيات ستقودنا حتما إلى انفجار وشيك. روّجوا لذلك كما روّجوا من قبل لربيع (ربيعهم وبمفهومهم طبعا) ظلوا ينتظرونه طويلا ولم يأت. للأسف ثمّة من تسرب إلى نفسه اليأس وتملّكه الخوف بفعل حملاتهم الدعائية التي تواصلت إلى ليلة الانتخاب، بل لغاية يوم الانتخاب. حتى جاء الفصل والجواب من الجزائريين أنفسهم في أربع رسائل وهي التالية، أسقطت أمانيّهم وتصوراتهم وحساباتهم وحتى مخططاتهم:
1 ـ تصويت الرئيس: كان بإمكان رئيس الجمهورية أن ينتخب بتوكيل، وهذا حقه الانتخابي الدستوري. بإمكانه أن يفعل ذلك. لكنه لم يفعل، وقام بأداء واجبه ككل الجزائريين. تنقل الرئيس شخصيا إلى مكتب الانتخاب حمل رسائل بالجملة. أولها أنهى المزايدات (بما فيها غير الأخلاقية وغير الإنسانية تجاه شخصه وتجاه رمز من رموز الجمهورية) حول صحته منذ تأجيل زيارة المستشارة الألمانية ماركيل، والرئيس الإيراني روحاني. وعدم برمجة استقبال الوزير الأول الفرنسي. شائعات تحركت بإيعاز من منابر التواطؤ، وغذّتها حملات مدروسة لأغراض معلومة وأخرى تترك للوقت لتفرز أبعادها.
تصويت الرئيس شخصيا أغلق بابا آخر. نفترض أن الرئيس بوتفليقة، لم يتنقل إلى مكتب التصويت؟. أولا سيزيد ذلك في تكريس ما يروّج من شائعات حول صحته. حتى وإن كنّا على قناعة ويقين ثابت غير متغير، وهو أن الدولة ومؤسسات الجمهورية لا تسير بالشائعات أو حسب عواطف ومزاج ما يريده الآخرون.
كما أن ذلك سيفتح لاحقا بابا للتشكيك والطعن في مصداقية المجلس الشعبي الوطني، على أن رئيس الجمهورية، نفسه لم يصوّت لمترشحيه. لذلك فإن الرئيس بوتفليقة أغلق كل الأبواب مبكرا.
2 ـ العزوف: راهن كثيرون على عزوف واسع ومقاطعة غير مسبوقة لهذه الانتخابات. بل عملت كثير من الأطراف السياسية والإعلامية من أجل ذلك العزوف في الداخل والخارج إلى درجة التيئيس وزرع الشك واللامبالاة. لكن الجزائريين شاركوا بنسبة قاربت 39 بالمائة. وهي نسبة نكاد نقول عادية مقارنة مع تشريعيات 2007 و2012. السائد أن التشريعيات لا تستقطب غالبا نفس الاستقطاب الذي تحدثه البلديات والرئاسيات. أكثر من ذلك فإن الفارق أحدثته هذه المرة مشاركة الشباب والمرأة.
3 ـ مشاركة الأحزاب: راهنت وسعت عديد الأطراف إلى الحيلولة دون مشاركة أحزاب بعينها في التشريعيات الحالية (كالأحزاب الإسلامية والأفافاس والأرسيدي... على الخصوص). لكن هؤلاء دخلوا الانتخابات وشاركوا في حملتها الانتخابية بخطابات تخطّت الحزبية وصبّت في الهموم والتحديات الوطنية على غرار غالبية الأحزاب المشاركة دون «تخوين» المقاطعين الذين لهم قناعاتهم وحساباتهم، والتي هي أيضا من صميم الفعل الديمقراطي، ليس هيّنا مشاركة 53 حزبا وقوائم أحرار عديدة في هذه الانتخابات. هذا تأكيد على أن نداءات إلى العزوف لم تلق استجابة أيضا من الأحزاب وليس فقط من المواطنين الذين شاركوا وصوّتوا.
4 ـ تغيير الخارطة: سمحت هذه التشريعيات ببروز أحزاب شابة جديدة تمكنت في ظرف وجيز من قلب موازين وأحكام مسبقة حول تموقع الأحزاب المألوفة حتى لا نقول ثورة على المألوف من الوجوه والممارسة، أي ما يشبه القول إنها استفادت من تصويت عقابي. لقد تمكنت أحزاب (تاج والأمبيا والمستقبل وكذا الأحرار) جماعيا من حصد 74 مقعدا. لو تتحالف هذه الأحزاب فستشكل قوة اقتراح وتشريع قوية داخل المجلس الشعبي الوطني. إضافة إلى التجديد الحزبي داخل قبة البرلمان فإن زحف النساء والشباب على البرلمان من خلال ما أسفرت عنه انتخابات 4 ماي أمر غير مسبوق خلّفته تشريعيات أمس الأول.
نعتقد أن تشريعيات ماي 2017، رغم ما يثار حولها من طرف الذين «لم يعجبهم حساب البيدر، بعد أن راهنوا على حساب الحقل» وأعني الذين خسروا مواقع ومقاعد على غرار حزب العمال والأفافاس والأرسيدي وحمس والأفنا... بل وحتى جبهة التحرير التي فقدت ما يقارب 50 مقعدا، هي تشريعيات تدرج في خانة «خطوة في الاتجاه الصحيح» على الأقل وتحتاج إلى تعزيز وتكريس في الاستحقاقات القادمة.
ثمّة سؤال آخر يطرح حول هذا العدد الكبير للأحزاب التي ستدخل قبة المجلس (36 حزبا إضافة إلى الأحرار). هل هذا «الموزاييك؛ عامل تنوّع أم تشتيت؟. وأي دور لحزب له مقعد واحد في مجلس شعبي يضم 462 مقعدا؟، سيما بعد أن منع الدستور التجوال الحزبي أي أن «يبتلع الحوت السياسي الكبير صغار السردين».
في آخر الاستنتاجات، لا بد أن تعمل الحكومة القادمة والسلطات بصفة عامة على دراسة وتشريح ظاهرة العزوف المتصاعدة في الاستحقاقات، وأن تعمل على إيجاد الحلول الأنسب والمخارج الأفضل لمشاركة أقوى من طرف الناخبين. لم يعد عاديا أو مقبولا أن يتواصل عدم الاهتمام بـ«هذا الحق الدستوري».
المشاركة والتصويت يظلان الأسلوب الأمثل في أي مسعى للتغيير السّلمي والديمقراطي. وعدم استقطاب المواطنين وعلى الخصوص الشباب منهم في مثل هذه الاستحقاقات قد يحدث الفراغ وانقطاع التواصل مع السلطة نفسها، ورأينا أسوأ الأمثلة التي انبثقت عن سنوات حكم الحزب الواحد، أو ما تشهده بلدان أخرى عربية وغيرها.