ومضات من الذاكرة، والخطوات الأولى نحو عبقرية اللغة

- 735

أحيا بعض الكتّاب والقراء الأوفياء للروائي الكبير محمد ديب، أحيوا مؤخرا ذكرى رحيله المصادفة لـ 2 ماي؛ من خلال تقديم بعض روائعه وأعماله، وكان منهم الأستاذ الحبيب السايح المولع بهذا الروائي؛ حيث أعاد على صفحته ما كتبه عن أعماله وسيرته.
كتب السايح "ما تبقّى من الدار الكبيرة"؛ حيث قال: "بالنسبة لي، في ثلاثية محمد ديب قبل أن أقرأها في ترجمة رائعة للأستاذ الكبير سامي الدروبي، اكتشفت، أدبياً وفنياً، واقع التفقير والتجويع والظلم والحرمان الاجتماعي والثقافي، وكل أنواع الميز والفصل التي كانت المؤسسة الاستعمارية الفرنسية تمارسها ضد الجزائريين في المنتصف الأول من القرن العشرين. فهي "الدار الكبيرة" التي كان لها عليّ التأثير السحري لعبقرية لغتها ـ الفرنسية ـ كيف تصور، خلافاً للفرنسية الأخرى، مقاومة الجزائريين الصامتة على بعد خمسة عشر عاما من اندلاع حرب التحرير".
وأشار الكاتب إلى أن شخصيات مثل الطفل عمر الذي يكون شاهدا على ذلك الواقع المأسَاوي، فيعبّر لأمه في نهاية الرواية ببسمته، عن أمل الخلاص الذي سيكون جيله هو من يحمل السلاح لتحقيقه، ومثل حميد السراج المعلم المثقف المناضل، أحد رموز الوعي الوطني، ومثل الأم للاعيني في خوض تجربة نضالها الشاقة المختلفة؛ باعتبارها رمز الحفاظ على الهوية والنسيج الأسري رغم حالات اليأس التي كانت تبلغها تحت وطأة الفقر.
"الدار الكبيرة" هي التي تسكن لحبيب السايح، أجواؤها أكثر من غيرها في الثلاثية نفسها أو في ما قرأه من حولها. وسيكون لتلك الأجواء انبعاثات في قصصه القصيرة، وفي بعض رواياته امتدادات رفيعة الخيوط من بناء مكانها مغلق الفضاء مفتوح الدلالات، وكانت هي إذاً بؤرة هاجسه في القيم التاريخية، التي صار يمكن لكتابته أن تحمل بعضها، ومن ثمة حدث الإغواء الذي تكون قد مارسته عليه بدون أن يكون أدرك فعلا أنه مفتون بها؛ لذلك يعتبر الحبيب السايح أن هناك تضافرا تم بفعل تقاطعات لـ "البؤساء" و"عشرة أيام هزت العالم" و"الأم" مع "الدار الكبيرة"، ليجد نفسه يوما دخل تحت تأثير ذلك كله بالتأكيد، في تجربة الكتابة الأدبية التي سيوجهها في البدء الواعي والالتزام السياسيين، ثم وبنضوج التجربة نفسها وتطورها وبتتالي الانكسارات النفسية والانهيارات الإيديولوجية، وعليه هدم بناء القناعات المكرسة مع الحفاظ على ما يغذي الروح بالسخاء تجاه الإنسان والإنسانية، سيصبح بحثه عن الفضاء الخاص واللغة الجديدة والأسلوب المميز ومغامرة التجريب، من بين أهم انشغالاته لإضافة لمسة خاصة إلى شكل الرواية التي يوماً ما أغوته، فصار كأنما هو ملزم بأن يقول ما كانت ستقوله "الدار الكبيرة" في زمنه هذا بعد أكثر من سبعين عاما، ذلك منه أهم تعبير عن الوفاء لعهد تلك الكتابة، وذلك ما يحاول بعض من كتابته اليوم أن يحاور به "الدار الكبيرة"؛ لأنها الرواية التي يوماً ما أغوته.