خدم الثقافة بتفان وحب

وفاة المثقف عبد الحكيم مزياني

وفاة المثقف عبد الحكيم مزياني
  • 1099
لطيفة داريب لطيفة داريب

كان يوصف بالموسوعة، وكان دائم حسن الهندام والابتسامة تطغى على مبسمه، إنه عبد الحكيم مزياني الذي رحل عن هذه الحياة الدنيا أول أمس، بعد معاناة طويلة من مرض عضال، لكن أثره باق إلى الأبد.

توفي المثقف الكبير عبد الحكيم مزياني عن عمر ناهز 72 سنة، بعد معاناة طويلة من مرض السرطان.

عبد حكيم معروف عنه عمله الدؤوب في حماية التراث الثقافي بصفة عامة، والعاصمي بصورة أدق، وقد تمكن من التعريف بأوجه كثيرة للثقافة، من خلال إنجازه للعديد من البرامج التلفزيونية غداة الاستقلال حول الموسيقى والسينما، كما صدرت له كتب عديدة حول الثقافة الجزائرية وتاريخ الثورة التحريرية.

في حوار أجرته الزميلة مريم.ن من جريدة "المساء"، مع عبد الحكيم مزياني، تحدث هذا الأخير عن والده الشهيد الطاهر مزياني، إمام مسجد "سيدي رمضان" بالقصبة، الذي كان يستدعى من طرف السلطات الفرنسية بسجن "سركاجي" للصلاة والترحم على أرواح الشهداء، الذين ينفذ فيهم حكم بالإعدام بالمقصلة، مثل الشهيد زبانة.

أضاف أن أهل القصبة كانوا يجلون والده باعتباره أيضا عضوا في جبهة التحرير الوطني آنذاك، الأمر الذي أثار فرنسا، حيث أرغمته على إمضاء تعهد يقضي بتحمله مسؤولية كل ما يجري في القصبة من أعمال ضدها، إلى أن استشهد سنة 1957 بسوق الجمعة، وروجت الصحف الفرنسية آنذاك أنه انتحر، وهو ما لا يمكن لرجل دين أن يقوم به.

وتابع أن والده جنده لخدمة الثورة رغم صغر سنه، إذ كان ينقل السلاح والوثائق، وشجعه من جهة أخرى على تذوق الموسيقى، فالتحق بمعهد لتعلم الموسيقى العالمية (سولفاج)، وألحقه والده بمدرسته بالقصبة، حيث كان يعلم فيها الأناشيد الدينية والوطنية ضمن مجموعات صوتية تخرج منها فنانون منهم، مثل الحاج نور الدين.

كما تفتحت عيناه على صداقات والده، مثل صداقته مع بشطارزي والإخوة محمد وعبد الرزاق فخارجي، وتعلم من أبيه شتى أوجه الثقافة الجزائرية المختلفة تماما عن الثقافة الفرنسية.

التحق مزياني غداة الاستقلال باتحاد الشبيبة الجزائرية والاتحاد الوطني للثانويات والمتوسطات، وكان مسؤولا ثقافيا وممثلا ومخرجا مسرحيا، إضافة إلى نشاطه في الحركة الجمعوية.

في سنة 1968، شارك في ملتقى سينمائي دولي احتضنته مدينة شرشال، حضره أبرز المخرجين وكتاب السيناريو في العالم آنذاك. منهم "ألبيرتو لاتواو" و"جون ستانبانغ" و"فريد لانغ"، وكانت فرصة له للتكوين، مما تأتى عنه إنشاء أندية للسينما، خاصة بالعاصمة، وبالتحديد قاعة "ابن خلدون"، ثم إنشائه لأندية أخرى عبر الوطن.

في سنة 1972، تأسست الاتحادية الجزائرية للأندية السينمائية التي كان يترأسها بمدينة متليلي في غرداية، وهكذا تم إنشاء 500 ناد سينمائي عبر الوطن على مستوى البلديات، والجامعات والوحدات الاقتصادية والمدارس العسكرية والقرى الزراعية وغيرها.

في 1 نوفمبر 1974، احتضنت الجزائر الملتقى المغاربي للأندية السينمائية بالعاصمة، ثم احتضنت مدينة المحمدية بالمغرب نفس الملتقى، كما احتضنت قرطاج بتونس في نفس الشهر ملتقى عن "السينماتوغرافيا"، وكلها ملتقيات شارك فيها رفقة رفاق له، ليقوموا بتأسيس الاتحادية المغاربية لجمعيات الأندية السينمائية، وأصبح عضوا في المكتب التنفيذي مسؤولا عن الأندية السينمائية العربية والإفريقية،

أما عن عمله في حقل الإعلام فكان سنة 1971، من خلال جريدة "ألجيري أكتواليتي" (الجزائر الأحداث)، ثم "الثورة الإفريقية"، وعمل في فرنسا في "إفريقيا-آسيا"، ثم عاد إلى الجزائر ليكتب في "المجاهد"، "الوطن" و"لوماتان" و"لكسبريسيون"، كما أنجز عدة حصص قدمها في التلفزة الوطنية منها "شاشة الجنوب".

لعبد الحكيم مزياني إصدارات، من بينها كتاب بعنوان "أول نوفمبر في المتيجة" الصادر سنة 1984 بفرنسا، ثم طبع في الجزائر سنة 1985، وقد كتب مقدمته الراحل كاتب ياسين، وكذا كتابين آخرين وهما "السينما الإفريقية بين الخيال والحقيقة"، و"الجزائر القديمة وإعادة تركيب الماضي".

كما خصص مزياني جانبا مهما للموسيقى الكلاسيكية الجزائرية في أبحاثه ومشاريعه، حيث التحق بجمعية "الموصلية" سنة 1968، ثم عمل بها مكلفا بالإعلام، وتخصص في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية الأندلسية، وفي سنة 1981 أسس جمعية "الفخارجية"

في هذا السياق، قال في حواره لجريدة "المساء": "أردت تطبيق برنامج خاص، متمثلا في جانب البحث التاريخي للموسيقى الأندلسية من حيث تطورها وانتشارها، علما أن فكرة التطور بقيت جامدة في الجمعيات، ويؤدي الشباب فيها القصائد دون فهم، مما يقتل التفاعل مع هذه الموسيقى، ويسلبها روحها ويصعب بالتالي توصيلها للغير. مشروعي هذا لم يطبق في جمعية "الموصلية"، على الرغم من تبنيه من قبل مجموعة من الأصدقاء خلال حفل تكريم عبد الكريم دالي، الذي كان فقط بالموسيقى الروسية، الحادثة أثرت في، فالتقيت مع الأستاذ سيد أحمد سري وتلاميذ الراحل دالي، لنقوم بتكريم شيوخ الموسيقى بموسيقانا، وقمنا بتنشيط حفلات أندلسية لأول مرة خارج مقرات الجمعيات، ومن ثمة خضنا نضالا لتعميم هذه الموسيقى، واعتبارها ثقافة وطنية، بالتالي أصبحت تؤدي ابتداء من سنة 1981 في القاعات السينمائية بالعاصمة".

تحدث مزياني عن جهوده في إنشاء مدرسة قوية، من خلال جمعية "الفخارجية"، بمساعدة الأستاذ عبد الكريم محمصاجي، وتحقق ذلك في سبتمبر 1982، وكانت البداية بفتح 6 أقسام، إضافة إلى استقبال أساتذة من مدارس غير عاصمية، منهم السيدة قارة تركي من تلمسان.

كما فتح أقساما للأطفال، وآخر للموسيقيين من طبوع غير أندلسية، قصد تعلم أصول هذه الأخيرة، وقسما للكبار من 14 إلى 85 سنة لتعلم العزف والأداء في 6 أشهر، جاء بعدها تأسيس جمعية "الأندلسية" التي استقبلت الوافدين من المتعلمين ما بين 6 سنوات إلى 80 سنة، وتم فيها تكريم الشيوخ وتنظيم نشاطات فنية، كالمعارض والمحاضرات والحفلات. كما قرر تدريس تاريخ هذه الموسيقى للموسيقيين أنفسهم، وإنشاء مجلة خاصة. وهكذا انتشرت هذه الموسيقى الأندلسية في الأوساط الشعبية وأصبح الجزائري يتذوقها، وأصبحت العائلات العاصمية تلتقي على موائدها في الحفلات المقامة.

في المقابل، دعا مزياني إلى ضرورة تسجيل هذا التراث كتابة وبطرق علمية واستعمال كل الوسائل التكنولوجية الأخرى. مضيفا أن له تجربتين في هذا السياق؛ الأولى فتح أقسام السولفاج وأخرى للتعليم التقليدي، والتجربة الأخرى، تتمثل في آلية التسجيل على البرمجيات، وقد بلغت 90 بالمائة.